كتاب مختصر كتاب الاعتصام (اسم الجزء: 1)
يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فإنَّه لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دليلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ مقيَّداً بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُحَل بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بالقلوب فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ لاستحسانِ الْعُقُولِ وميلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وذلك أنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعتبر فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بعينِه، فإنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ وسكون الْقَلْبُ مُجَرَّداً عَنِ الدَّلِيلِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دلَّت عَلَيْهِ تلك الأخبار، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثمَّ قسمٌ ثالث غير الكتاب والسنة.
وَإِنْ قِيلَ: إنَّها تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ، لَمْ تَخْرُجْ تِلْكَ عَنْ الْإِشْكَالِ الأوَّل، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يتعلَّق بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ علَّق ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طُمَأْنِينَتِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٌ، فَهُوَ ذَلِكَ الأوَّل بِعَيْنِهِ، بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَالْجَوَابُ: أنَّ الْكَلَامَ الأوَّل صَحِيحٌ، وإنَّما النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِهِ.
فَاعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ: نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ؛ فأمَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إليهما عن إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أو غير دليل.
وأمَّا النَّظَرُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فإنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شرعيٍّ فَقَطْ، بَلْ يَثْبُتُ بدليلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُشترط فِيهِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فضلاً عن درجة الاجتهاد.
الصفحة 113
160