كتاب مختصر كتاب الاعتصام (اسم الجزء: 1)

ثُمَّ استمرَّ مَزِيدُ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى مدةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ؛ وأَكثرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَى أَن نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّة، وأَصغوا إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِ وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: ((يَقْتُلُونَ أَهل الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهل الأَوثان، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) (¬1) يَعْنِي لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ، بَلْ يأْخذونه عَلَى الظَّاهِرِ: كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمتي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) (¬2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَنْ؟)) (¬3) وَهَذَا أَعم مِنَ الْأَوَّلِ فإنَّ الأَول عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهل الْعِلْمِ خَاصٌّ بأَهل الأَهواءِ وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: ((حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)) .
وكلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ فَمِنْ شأْنه أَن يدعو غيره إليها، ويحض سِوَاهُ عَلَيْهَا، إِذِ التأَسي فِي الأَفعال وَالْمَذَاهِبِ موضوع طلبه في الجِبِلَّة، وبسببه تقع من الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تنشأُ العداوة والبغضاء للمختلفين.
__________
(¬1) رواه مسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ وأوله: ((إن من ضئضيء هذا قوماً....)) وانظر: (ص 29 و 33) .
(¬2) [حسن] رواه أبو داود (4596) والترمذي (2640) وابن ماجه (3991) وغيرهم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(¬3) رواه البخاري (3456) و (7320) ، ومسلم (2669) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الصفحة 3