كتاب مختصر كتاب الاعتصام (اسم الجزء: 1)

الشِّمَالِ ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ فَيُقَالُ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ على أعقابهم)) الحديث (¬1) ، فَفِيهِ أنَّه لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَفَاعَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَيَظْهَرُ مِنْ أوَّل الْحَدِيثِ أنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كفرٍ لِقَوْلِهِ: ((وإنَّه سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي)) وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَا نُسبوا إِلَى أُمته، ولأنَّه عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ وَفِيهَا: {وَإنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2) ، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهم خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً لَمَا ذَكَرَهَا، لأنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وإنَّما يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عملُه عَنِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬3) .
- وأمَّا أنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬4) وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها} الحديث (¬5) .
- وأمَّا أنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كلِّ صَاحِبِ بدعة)) (¬6)
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ الفِرَق إِذْ قَالَ فِيهِ: ((وإنَّه سَيَخْرُجُ فِي أُمتي أَقْوَامٌ تجارى بهم تلك الأهواءُ، كما يتجارى الكَلَبُ (¬7) بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ)) (¬8) وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ عَمَّا رَأَى وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَرُورِيَّةَ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مُنَاظَرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِهِمْ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ.
ومن هنا قُلْنَا: يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ لأنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَسَبَبُ بُعْدِهِ عَنِ التَّوْبَةِ: أنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صعبٌ عَلَى النَّفْسِ لأنَّه أمرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وصادٌ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا لأنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إنَّما تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ
¬_________
(¬1) رواه البخاري (6526، 3349، 3447) ومسلم (2860) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(¬2) المائدة: 118.
(¬3) النساء: 116.
(¬4) النحل: 25.
(¬5) رواه مسلم (1017) مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عنه، وسيأتي بطوله ص56.
(¬6) [صحيح] رواه أبو الشيخ في ((تاريخ أصبهان)) والطبراني في ((الأوسط)) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وغيرهم. انظر ((السلسلة الصحيحة)) (1620) وقد ورد بلفظ ((حجب)) و ((احتجز)) و ((احتجب)) .
(¬7) الكَلَبُ: داءٌ معروف يعرض للكلْب، فمن عضَّه قتله.
(¬8) [حسن] رواه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) وغيرهما وهي زيادة في حديث الفِرَق.

الصفحة 35