كتاب الوجل والتوثق بالعمل لابن أبي الدنيا

، فَسَأَلَ عَنْ عُقُوبَتِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقِيلَ عُقُوبَتُهُ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَأُلْقِيَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ، وَكَفَى اللَّهُ الرُّهْبَانَ مَؤُنَتَهُ، وَعَجَّلَهُ لِلنَّارِ فِي الدُّنْيَا، لِعَبَادَتِهِ الَّتِي نَوَاهَا لِلدُّنْيَا.
§قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، كَيْفَ لَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى مَصَائِبِهِمْ بِالصَّبْرِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى صَاحِبِ الْمُصِيبَةِ يَوْمٌ يَتَمَنَّى فِيهِ مَا تَمَنَّى الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ. قَالُوا: وَمَا تَمَنَّى الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ؟ قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ تَاجِرًا دَفَنَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي مَوْضِعٍ، فَبَصُرَ بِهَا جَارٌ لَهُ فَأَخْرَجَهَا، فَلَمَّا فَقَدَهَا التَّاجِرُ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، ثُمَّ طَالَ بِهِ الْعُمُرُ حَتَّى عَمِيَ وَاحْتَاجَ حَاجَةً شَدِيدَةً، فَلَمَّا حَضَرَتْ جَارَهُ الْوَفَاةُ تَخَوَّفَ الْحِسَابَ، فَأَوْصَى أَنْ تُرَدَّ الْمِائَةُ دِينَارٍ إِلَى الْأَعْمَى، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِالْقَصَّةِ، فَسُرَّ الْأَعْمَى سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّهَا عَلَيَّ أَحْوَجَ مَا كُنْتُ إِلَيْهَا، فَيَا لَيْتَ كُلَّ مَالٍ كَانَ لِي يَوْمَئِذٍ قُبِضَ عَنِّي ثُمَّ رُدَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ سَيَلْقَاهُ يَوْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
§قِصَّةُ صَاحِبِ الْمَسِيلِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِنَفَاذِ عُقُولِهِمْ، كَيْفَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ صَاحِبُ الْمَسِيلِ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ -[53]- قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَطْنَ مَسِيلٍ، فَقِيلَ لَهُ: تَحَوَّلْ عَنْ هَذَا الْمَنْزِلِ، فَإِنَّهُ مَنْزِلٌ خَطِرٌ. فَقَالَ: قَدْ عَمِلْتُ، وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي نُزْهَتُهُ وَمَرَافِقُهُ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا تَطْلُبُ الرِّفْقَ لِصَلَاحِ نَفْسِكَ، فَلَا تُخَاطِرْ بِهَا. قَالَ: مَا أُرِيدُ التَّحَوُّلَ عَنْ مَنْزِلِي. فَغَشِيَهُ السَّيْلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذَهَبَ بِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ. وَهُمْ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ، كَأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الدَّهْرِ الَّذِينَ قَالُوا: نُنْشَأُ وَنَبِيدُ، وَالْهَالِكُ مِنَّا لَا يَعُودُ.

الصفحة 52