كتاب أحكام أهل الذمة (اسم الجزء: 1)

فَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ عُقُوبَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عُقُوبَةِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ عِصْمَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عِصْمَتِهِ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ مَجَّانًا، فَإِذَا جَازَ إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَإِقَامَتُهُ بَيْنَهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَجْوَزُ وَأَحْوَزُ، وَإِلَّا فَيَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِيِّ الَّذِي لَا يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: إِذَا مَنَنَّا عَلَيْهِ أَلْحَقْنَاهُ بِمَأْمَنِهِ، وَلَمْ نُمَكِّنْهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قِيلَ: إِذَا جَازَ إِلْحَاقُهُ بِمَأْمَنِهِ حَيْثُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْكُفَّارِ وَعَوْنًا لَهُمْ وَبِصَدَدِ الْمُحَارَبَةِ لَنَا مَجَّانًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَإِذْلَالًا وَصَغَارًا لِلْكُفْرِ أَوْلَى وَأَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إِذَا جَازَتْ مُهَادَنَتُهُمْ لِلْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانُوا أُمَّةً كَبِيرَةً لَا تُحْصَى كَأَهْلِ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ، فَإِذْلَالُهُمْ وَقَهْرُهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَقْرَبُ إِلَى عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقُوَّتِهِ مِنْ إِبْقَائِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَيَكُونُونَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَاتِ لَا أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا سِوَاهُمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ - كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - فَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ سَيَأْتِي التَّعَرُّضُ إِلَيْهَا فِيمَا

الصفحة 109