كتاب حجة الوداع لابن حزم

يَضِلَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ، فَاعْتَرَفَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَشَرِبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَامَ النَّاسِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، لَكِنْ صَلَّاهُمَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّاسِ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَهُمَا مَعًا وَبِإِقَامَتَيْنِ، لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهُمَا إِقَامَةٌ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا لِلدُّعَاءِ، وَهُنَالِكَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي جُمْلَةِ الْحَجِيجِ فَمَاتَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ وَلَا يُحَنَّطَ وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ هُنَالِكَ عَنِ الْحَجِّ، فَأَعْلَمَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَوَقْتِ الْوُقُوفِ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا لِلدُّعَاءِ حَتَّى إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ أَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ ضَمَّ زِمَامَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرَفَ رِجْلِهِ، ثُمَّ مَضَى يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، وَكِلَاهُمَا ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ، وَالنَّصُّ آكَدُهُمَا، وَالْفَجْوَةُ الْفُسْحَةُ مِنَ النَّاسِ، كُلَّمَا أَتَى رَبْوَةً مِنْ تِلْكَ الرَّوَابِي أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا، حَتَّى تَصْعَدَهَا، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسَّكِينَةِ فِي السَّيْرِ

الصفحة 120