كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا = تاريخ قضاة الأندلس

إِلَّا الْحُدُود. وَاحْتج الشَّافِعِي بِحَدِيث هِنْد وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قضى لَهَا ولولدها على أبي سُفْيَان بنفقتها، وَلم يسئلها عَن ذَلِك بَيِّنَة، لعلمه بِوُجُوب ذَلِك عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَيَقن بِصِحَّة مَا يقْضى بِهِ، إِذا علمه على يَقِين. وَلَيْسَت كَذَلِك الشَّهَادَة، لِأَنَّهَا قد تكون كَاذِبَة أَو واهمة. وَقد أَجمعُوا على أَن لَهُ أَن يعدل، وَيسْقط الْعُدُول بِعِلْمِهِ، إِذا علم أَن مَا شهدُوا بِهِ على غير مَا شهدُوا بِهِ. وَينفذ فِي ذَلِك وَلَا يقْضى بِشَهَادَتِهِم. وَمِثَال ذَلِك أَن يعلم بنت الرجل ولدت على فرَاشه: فَإِن أَقَامَ شَاهِدين على أَنَّهَا مملوكته، فَلَا يجوز أَن يقبل شَهَادَتهمَا، ويبيح لَهُ فرجا حَرَامًا. وَكَذَلِكَ لَو رأى أَن رجلا قتل آخر، ثمَّ جئ بِغَيْر الْقَاتِل، وَشهد أَنه الْقَاتِل، فَلَا يجوز أَن يقبل الشَّهَادَة؛ وَكَذَلِكَ لَو سمع رجلا طلق امْرَأَته طَلَاقا بَائِنا، ثمَّ ادَّعَت عَلَيْهِ الْمَرْأَة الطَّلَاق، وَأنكر الزَّوْج ذَلِك. فَإِن جعل القَوْل قَوْله، فقد أَقَامَهُ على فرج حرَام، فيفسق بِهِ، فَلم يكن لَهُ بُد من أَن لَا يقبل قَوْله وَيحكم بِعِلْمِهِ. وَاحْتج أَصْحَاب أبي حنيفَة بِأَن مَا علمه الْحَاكِم قبل الْقَضَاء إِنَّمَا حصل فِي الِابْتِدَاء على طَرِيق الشَّهَادَة؛ فَلم يجز أَن يَجعله حَاكما، لِأَنَّهُ، لَو حكم بِهِ، لَكَانَ قد حكم بِشَهَادَة نَفسه، وَكَانَ مُتَّهمًا، وَصَارَ بِمَنْزِلَة من قضى بِدَعْوَاهُ على غَيره. وَأَيْضًا، فَإِن عمله لما تعلق بِهِ الحكم على وَجه الشَّهَادَة، فَإِذا مضى بِهِ، صَار كَالْقَاضِي بِشَاهِد وَاحِد. قَالُوا: وَالدَّلِيل على جَوَاز حكمه بِمَا علمه فِي حَال الْقَضَاء وَفِي مَجْلِسه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام} : أَنا أَقْْضِي على نَحْو مَا أسمع! وَلم يعرف بَين سَمَاعه من الشُّهُود أَو الْمُدعى عَلَيْهِ. فَيجب أَن يحكم بِمَا يسمعهُ من الْمُدعى عَلَيْهِ، كَمَا يحكم بِمَا يسمعهُ من الشُّهُود. وَاحْتج بعض أَصْحَاب مَالك؛ فَقَالُوا: الْحَاكِم غير مَعْصُوم، وَيجوز أَن تلْحقهُ المظنة فِي أَن يحكم لوَلِيِّه وعَلى عدوه. فحسمت الْمَادَّة فِي ذَلِك بِأَن لَا يحكم بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ ينْفَرد بِهِ، وَلَا يشركهُ غَيره فِيهِ. فَظهر، على مَا تقرر فِي الْمَسْأَلَة من مَذْهَب الشَّافِعِي وَمن تبعه، أَن قَول ابْن رشد نَحْو الرجل إِذا أقرّ عِنْد القَاضِي قبل أَن يستقضى، فَلَا اخْتِلَاف بَين أحد من أهل الْعلم، فِي أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار لَيْسَ بِصَحِيح؛ بل الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة مَوْجُود اللَّهُمَّ إِلَّا إِن أَرَادَ بقوله مَا يرجع إِلَى الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَو قصد الْأَعَمّ والأغلب. فقد يُوجد نَحْو هَذَا لِابْنِ الْمَوَّاز وَابْن حبيب فِي غير مَا مَوضِع. وَالِاخْتِلَاف فِيهِ حَاصِل. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن الْحَاج فِي نوازله، عِنْد تكَلمه فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة:

الصفحة 191