كتاب تحقيق الآيات البينات في عدم سماع الأموات

(1) يعني الآمدي في كتابه السابق الذكر: " الأبكار "
(2) يعني الأشاعرة
(3) قلت: لعله يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " من عاش بعد الموت " من طريق أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله أنه ونفرا من قومه ركبوا البحر وأن البحر أظلم عليهم أياما ثم انجلت عنهم تلك الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب مغلقة تجأجأ عنها الريح فهتفت فيها فلم يجيبني أحد فبينما أنا على ذلك إذ طلع علي فارسان تحت كل فارس منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وأني خرجت أطلب الماء فقالا لي: يا عبد الله اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاستق منها ولا يهولنك ما ترى فيها. قال: فسألتهما عن تلك البيوت المعلقة التي تجأجأ فيها الريح؟ فقالا: هذه بيوت فيها أرواح الموتى قال: فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا رجل معلق مقلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله فلما رآني هتف بي وقال: يا عبد الله اسقني. قال: فعرفت بالقدح لأناوله فقبضت يدي فقال لي: بل العمامة ثم ارم بها إلي قال: فبللت العمامة لأرمي بها إليه فقبضت يدي؟ فقلت يا عبد الله غرفت بالقدح لأناولك فبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي فاخبروني ما أنت؟ فقال: أنا ابن آدم؟ أنا أول من سفك الدماء في الأرض
نقلته من " كتاب الأهوال " لابن رجب (ق 122 / 1 - 123 / 1) وسكت عنه وهي قصة غريبة عجيبة وعبد الله هذا راويها لم أعرفه وكذا أبو أيوب اليماني الراوي عنه. ثم رأيت في النسختين البغداديتين: " السكتة " بدل " السكة " ولم أدر وجهه
[91]
وأطال في الأجوبة فإن أردته فارجع إليه
وتبين أيضا منه موافقة ابن جرير الطبري المجتهد وغيره للحنفية في عدم السماع لأنه لما نفى الحياة فمن الأولى أن ينفي السماع أيضا كما لا يخفى على كل ذي فهم غير متعصب فلا تغفل
[زيارة القبور]
وأما مشروعية زيارة المقابر فاسمع ما قالته الأئمة الحنفية في كتبهم المرضية قال الشرنبلالي في " مراقي الفلاح ":
(فصل في زيارة القبور. ندب زيارتها) من غير أن يطأ القبور (للرجال والنساء وقيل تحرم على النساء) والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء فتندب لهن أيضا (على الأصح) . (1)
(1) نسبة إلى (شبرى بلولة) ب (المنوفية) من (مصر) وهو حسن بن عمار بن علي المصري من فقهاء الحنفية مكثر من التصنيف مات سنة (1069)
(2) انظر
أحكام الجنائز " (ص 180)
[الصفحة 92]
والسنة زيارتها قائما والدعاء عندها (1) قائما كما كان يفعل رسول الله A في الخروج إلى البقيع ويقول السلام [عليكم] دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية ". (2)
(ويستحب) للزائر (قراءة) سورة (يس) لما ورد " انتهى (3)
وقال محشيه الطحطاوي (4) :
(قوله
للرجال " ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب (5) ونفع الميت بما يتلى عنده [من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله (6) فإنه من عادة] (7) أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر
(1) قلت: لعله يعني الدعاء لها عندها بدليل الحديث الآتي وإلا فقصد القبر للدعاء عنده تبركا به لا يشرع بل هو من الشركيات والوثنيات التي ابتلي بها كثير من المسلمين كما شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه
(2) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة. انظر " أحكام الجنائز " (ص 190)
(3) يعني كلام " المراقي " (ص 117) وتمامه: " عن أنس Bهـ أنه قال رسول الله A: " من دخل المقابر فقرأ سورة {يس} خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات "
قلت: وسكت عليه الطحطاوي في " حاشيته " (ص 610) ولم يخرجه وهو حديث موضوع كما بينته في " الضعيفة " برقم (1291) ومثله حديث " من مر بالمقابر فقرأ {قل هو الله أحد} أحد عشر مرة. . . " وبيانه في المصدر السابق (1290)
(4) (ص 610) من " الحاشية "
(5) يعني بتذكرة الآخرة كما في قوله A: ". . . . فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة. ولا تقولوا هجرا ". انظر " أحكام الجنائز " (ص 180)
(6) ونحوه في " حاشية الباجوري على ابن قاسم " ونصه (1 / 277) : " ويكره تقبيل القبر واستلامه ومثله التابوت الذي يجعل فوقه وكذلك الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء ". ثم استثنى مخربا بيده لما بنى فقال: " إلا إن قصد به التبرك بهم فلا يكره " قلت: وهل البلاء كله إلا من مثل هذا التبرك الموصل إلى الشرك؟
(7) سقطت من الأصل واستدركتها من " الحاشية "
[الصفحة 93]
الأسود والركن اليماني خاصة. وتمامه في الحلبي "
وقال الغزالي في " الإحياء ": (1) إن ذلك من عادة النصارى قوله: (وقيل: تحرم على النساء) وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر؟ فقال: لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه " وقال بعد أسطر:
إن مسألة القراءة على القبر ذات خلاف قال الإمام: (2) تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده عنه A (3) . وقال محمد: تستحب
انتهى المقصود منه بلفظه
قلت: وتعبير الإمام عن الميت ب (الجيفة) مأخوذ مما رواه أبو داود مرفوعا عنه A: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين طهراني أهله ". فافهم. وقال أيضا:
فللإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره (4) عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة للقرآن أو الأذكار أو غير ذلك من أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. قال الزيعلي (5) في
(باب
(1) في آخره (4 / 419) وقال في مكان آخر منه (1 / 232) : " وليس ذلك من السنة "
(2) يعني أبا حنيفة C وهو مذهب الجمهور ومنهم الإمام مالك والشافعي وأحمد كما تراه منقولا عنهم في " أحكام الجنائز " (191 - 192) وراجع لهذا رسالة العلامة البركوي في " زيارة القبور " (ص 322 - 323 - هامش شرعة الإسلام)
(3) قلت: وهذا التعليل الثاني هو المعتمد بخلاف الأول فإنه مما لا دليل عليه حتى ولو صح الحديث الذي استدل به المؤلف فيما يأتي فكيف وهو غير صحيح كما هو مبين في " أحكام الجنائز " (ص 13)
(4) في هذا الإطلاق نظر بينته في المصدر السابق تحت عنوان: " ما ينتفع به الميت " (ص 168 - 178) فراجعه فإن فيه تحقيقا قلما تراه في كتاب آخر
(5) يعني في " شرح الكنز " (1 / 112)
[الصفحة 94]
الحج عن الغير ") . انتهى (1)
ومثله من أبحاث الزيارة في " رد المحتار " وغيره من كتب المذهب. وكذا مسائل القراءة ونحوها المسطورة في كتب سائر المذاهب تركناها خشية التطويل إذ كان المقصود من تحرير هذه الرسالة بيان قول الأئمة الحنفية أن الميت لا يسمع عندهم وعند جملة من علماء المذاهب الأخر فأثبتنا ولله الحمد صحة نقلنا عنهم وما تلقيناه منهم
فإن قيل: إذا كان مذهب الحنفية وكثير من العلماء المحققين على عدم السماع فما فائدة السلام على الأموات وكيف صحة (2) مخاطبتهم عند السلام؟
قلت: لم أجد فيما بين يدي الآن من كتبهم جوابهم عن ذلك ولا بد أن تكون لهم أجوبة عديدة فيما هنالك والذي يخطر في الذهن ويتبادر إلى الخاطر والفهم أنهم لعلهم أجابوا بأن ذلك أمر تعبدي وبأنا نسلم سرا في آخر صلاتنا إذا كنا مقتدين وننوي بسلامنا الحفظة والإمام وسائر المقتدين مع أن هؤلاء القوم لا يسمعونه لعدم الجهر به فكذا ما نحن فيه. (3) على أن السلام هو الرحمة للموتى وننزلهم منزلة المخاطبين السامعين وذلك شائع في العربية كما لا يخفى على العارفين فهذه العرب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار (4)
(1) يعني كلام الطحطاوي
(2) كذا الأصل ولعل الصواب " صحت "
(3) قلت: ومن هذا القبيل قول الضرير في حديثه المشهور: " يا محمد إني توجهت بك إلى ربي. . . " الحديث وهو مخرج في رسالتي " التوسل " (ص 67 - 68) . وهذا إذا افترض أن النبي A كان بعيدا أو غائبا عنه لا يسمعه وأما إذا كان ذلك في حضوره A فلا إشكال
(4) قلت: ومن ذلك مخاطبة النبي A الهلال حين يراه بقوله: ". . . ربنا وربك الله " ونحوه مما جاء في عدة أحاديث مخرجة في " المشكاة " (2428 و 2451) و " الكلم الطيب " (ص 91 / 161) و " الصحيحة " (1816) . و " الضعيفة " (1506)
ومثله ما روي عن ابن عمر مرفوعا: " كان إذا سافر فأقبل الليل قال: يا ارض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك. . . " الحديث وقد صححه بعضهم لكن في إسناده جهالة كما بينته في " الكلم الطيب " (99 / 180) و " المشكاة " (3439 - التحقيق الثاني)
وفي ذلك كله رد قوي على قول ابن القيم في " الروح " (ص 8) وقد ذكر السلام على الأموات -:
فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال
قال: " وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويرد "
وكأنه C لم يستحضر خطاب الصحابة للنبي A في التشهد: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " خلفه في المدينة وبعيدا عنه في سائر البلاد بحيث لو خاطبوه بذلك جهرا لم يسمعهم A فضلا عن جمهور المسلمين اليوم وقبل اليوم الذي يخاطبونه بذلك أفيقال: إنه يسمعهم؟ أو أنه من المحال السلام عليه وهو لا يشعر بهم ولا يعلم؟ وكذلك لم يستحضر C قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه فقال في " الاقتضاء " (ص 416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفا:
وقوله:
يا محمد " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب "
[الصفحة 95]
وبعد أن حررت هذه الكلمات رأيت في " شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " في " فصل جامع للوضوء " (1) في الكلام على حديث أبي هريرة أن رسول الله A خرج إلى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " (2) ما لفظه:
(1) (ج 1 ص 63) والزرقاني نسبة إلى (زرقان) من قرى منوف بمصر وهو محمد بن عبد الباقي المصري الأزهري المالكي توفي سنة (1122)
(2) أخرجه مسلم أيضا وغيره وقد سقت الحديث بتمامه وخرجته في " أحكام الجنائز " (ص 190)
[الصفحة 96]
" قال الباجي (1) وعياض: (2) يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده. قال الباجي (3) : وهو الأظهر ". (4)
[ورأيت أيضا في " حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح " في " باب الصلاة على الجنائز " (5) ما عبارته:
" قوله: (وينوي بالتسليمتين الميت مع القوم) وجزم في " الظهيرية " بأنه لا ينوي الميت ومثله لقاضي خان. وفي " الجوهرة ": قال في " البحر ": وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام لأنه ليس أهلا للخطاب. قال بعض الفضلاء: وفيه نظر. لأنه ورد أنه A كان يسلم على [أهل] القبور انتهى. على أن المقصود منه الدعاء لا الخطاب " انتهى بلفظه
(1) نسبة إلى (باجة) بالأندلس واسمه سليمان بن خلف أبو الوليد القرطبي فقيه مالكي كبير من رجال الحديث. مات سنة (474)
(2) هو عياض بن موسى القاضي أبو الفضل عامل المغرب وإمام أهل الحديث في وقته وكان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم توفي ب (مراكش) سنة (544)
(3) في " المنتفى " (1 / 69)
(4) قلت: كل من الاحتمالين غير قوي عندي أما الأول فلأن النبي A كان يخاطب الموتى بالسلام المذكور كلما زار القبور كما في حديث عائشة Bها: " كان A كلما كان ليلتها من رسول الله A يخرج من آخر الليل فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين. . . " الحديث. رواه مسلم وغيره وهو مخرج في " أحكام الجنائز " (ص 189) فهل كانوا يجيبونه كلما سلم عليهم؟
وأما الآخر فهو أضعف منه لأنه يعود السؤال السابق: لماذا خاطبهم النبي A بذلك؟ اللهم إلا أن يكون مراده أن الأمر تعبدي محض. والله أعلم
(5) ص 341 - الطبعة الأزهرية
[الصفحة 97]
وكذلك في " حاشية ابن عابدين " على " الدر المختار " (1) . وقال في " البحر " (2) ما نصه:
وفي
الظهيرية ": ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي من على يمينه في التسليمة الأولى ومن على يساره في التسليمة الثانية. انتهى. وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام [عليه] حتى ينوى به إذ ليس أهلا له ". انتهى ما في " البحر "؟ بحروفه
فتبين لك من كلام الفقهاء المشهورين أن الميت لا ينوي بالسلام ولا يخاطب وأن القصد بسلامه الدعاء. وهذا كله مطابق لما قدمناه. والحمد لله رب العالمين
إذا علمت ما مضى من النقول الصحيحة وأقوال أهل المذهب الحنفي وغيرهم الرجيحة تبين لك ما في الرسالة المسماة ب " المحنة الوهبية " من الخبط والخلط والكذب وسوء الفهم والتلبيس وإطالة اللسان على القائلين بعدم السماع بما لفظ بعضه: " فيلزم من قوله هذا أن الذي ينكر سماع الكفار يكفر لأن جاحد المعلوم من الدين بالضرورة يكفر ". انتهى
فنعوذ بالله من الخذلان وتكفير المسلمين والجدال الباطل في الدين (3) ]
فافهم ما قلناه وكن من الشاكرين
(1) (ج 1 / 817)
(2) (ج 2 / 197)
(3) ما بين المعكوفتين من الصفحة (97) إلى هنا زيادة استدركناها من النسختين البغداديتين
[الصفحة 98]
الخاتمة
ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى - في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث [ونتبعها بمسائل]
قال الحافط ابن القيم في
كتاب الروح ": (1)
هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها وهي إنما تتلقى من السمع فقط واختلف في ذلك
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. (2)
(1) (ص 90 - 117)
(2) قلت: وهو الصحيح من الأقوال الآتية لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح تقوم به الحجة كما سترى وهو الذي جزم به شيخ الإسلام ابن تيمية في
الفتاوى " (24 / 365) وقال: " ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم "
وللحافظ ابن رجب تفصيل جيد في ذلك في كتابه " الأهوال " (ق 95 - 113 / 3) ولولا خشية الإطالة لنقلته برمته فاكتفيت بالإشارة
[الصفحة 99]
[وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها]
وقالت: طائفة الأرواح على أفنية القبور
وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة (1)
وقال أبو عبد الله بن منده: قال طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين ب (الجابية) (2) وأرواح الكفار ب (برهوت) : بئر ب (حضرموت)
وقال صفوان بن عمرو (3) : سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقال: هي الأرض التي
(1) قلت: الذي في " مسائل عبد الله لوالده أحمد) (ص 129 - مخطوطة الظاهرية) : " سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورها أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: (فذكر حديث مالك الآتي قريبا (ص 104) ثم قال: وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال: إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزاير (كذا) يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها. وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش "
(2) قرية من ناحية الجولان شمالي حوران وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع قلت: وهذا الأثر خرجه ابن القيم (106 - 107) عن جمع وليس فيها ما يثبت إسناده
(3) في النسخ الثلاث " عمر " بدون الواو " والتصويب من كتب الرجال ومن " الأهوال " (ق 122 / 1)
[الصفحة 100]
يورثها الله المؤمنين في الدنيا. (1)
وقال كعب: (2) أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر (زمزم) (3) وأرواح الكفار ببئر (برهوت)
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض (4) تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن (أي روحه) تذهب في الأرض حيث شاءت (5)
(1) قال الحافظ ابن رجب: " خرجه ابن منده وهو غريب جدا وتفسير الآية بذلك ضعيف ". والصحيح في تفسيرها قول ابن عباس: أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد A كما قال ابن القيم في " الروح " (ص 107) ونحوه في كتابه " شفاء العليل " (ص 39)
(2) كعب هذا هو ابن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار وهو ثقة مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام مات في خلافه عثمان وقد زاد على المائة له في مسلم رواية لأبي هريرة عنه كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " وهو بالنظر لكونه كان قبل إسلامه حبرا من أحبار اليهود فهو كثير الرواية للإسرائيليات لكن قسم كبير منها لا يصح السند به إليه ومنها هذا الأثر فلا قيمة له أخرجه المروزي في زوائد " الزهد " لابن المبارك (1223) . وراجع لإسرائيلياته كتاب " فضائل دمشق للربعي " بتخريجي إياه
(3) هذا رده ابن القيم بنفسه بقوله (ص 108) : بأنه لا دليل عليه في الكتاب والسنة ولا في قول صاحب يوثق به. وأما فقرة أرواح الكفار فلم ترد في حديث مرفوع وإنما هي آثار موقوفة ساقها ابن القيم (106 - 1079 وكلها ضعيفة الإسناد نعم وقع مرفوعا في مؤلف لأبي سعيد الخراز كما في " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (4 / 221) لكن الخراز هذا صوفي مشهور بيد أنه في الرواية غير معروف أنظر " الضعيفة " (2 / 209)
(4) قال ابن القيم: " كأنه أراد بها أرضا بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث تشاء "
(5) علقه ابن القيم (91) عن سلمان فلم يسق إسناده وما أراه يصح لكن قوله: " إن أرواح الكفار في سجين " فيه روايات كثيرة مرفوعة وموقوفة تراها في " الدر المنثور " (6 / 324 - 325) وذكر في " شرح الصدور " (ص 26 - 27) حديثا مرفوعا عن أبي هريرة من رواية البزار وابن مردويه ورأيته أنا في " مصنف عبد الرزاق " (3 / 569) موقوفا عليه وسنده حسن. وفي " الروح " (ص 99) حديث آخر عن ضمرة بن حبيب مرسلا
[الصفحة 101]
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله (1)
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. (2)
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية القبور (3) وروى عبد الله ابن أبي يزيد أنه سمع [ابن] عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة (4) وعن عبد الله ابن عمرو: أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة (5) . وفي " مسلم ": " في أجواف طير
(1) قلت: هذا معنى طرف من حديث أبي ذر الطويل في الإسراء عند الشيخين ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسمعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن كما قال ابن القيم (ص 108)
(2) قلت: وهذا مما لا دليل عليه وقد رده ابن القيم في فصل خاص عقده لذلك (ص 109 - 110) وتبعه الحافظ ابن رجب (ق 127 / 1) باختصار
(3) وهذا على إطلاقه خطأ فإن أرواح المؤمنين أيضا في الجنة كما في حديث مالك الآتي فإذا بأن ذلك في بعض الأوقات أو بأن لها إشرافا على القبور استقام الكلام. راجع " الروح " (ص 100)
(4) رواه بقي بن مخلد وفي إسناده يحيى بن عبد الحميد كما في " الروح " (ص 96) وهو الحماني. وفيه ضعف لكن يقويه أنه صح ذلك عنه مرفوعا في حديث له في " المشكاة " (3853) و " صحيح الجامع " رقم 5081)
(5) أخرجه عبد الله بن المبارك في " الزهد " (446) وإسناد صحيح
[الصفحة 102]
خضر " (1) وقال قتادة: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. وقال ابن المبارك: عن ابن جريح فيما قرىء عليه: عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها (2) . وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد (3) أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين؟ فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وعن مجاهد: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك. (قال ابن القيم) : (4)
ولا تنافي بين هذه الأقوال الشرعية والأحاديث النبوية لأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها في أعلى عليين وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام وهم متفاوتون في منازلهم ومنها في حواصل طير ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة ومنها من يكون مقره بباب الجنة ومنها من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى
(1) في " مسلم " كما تقدم (ص 39 - 40) بلفظ " جوف " وكذا في حديث ابن عباس المشار إليه آنفا
(2) ذكره هكذا ابن رجب في " الأهوال " (100 / 1) وسنده صحيح وهو في " تفسير مجاهد " (ص 92) وعنه ابن جرير في " تفسيره " (2317 و 2318) من طرق أخرى عن ابن أبي نجيح به نحوه
(3) هو الكلبي روى عن العرباض بن سارية وعمير بن سعد صاحب رسول الله A وعمر بن عبد العزيز وعبد الأعلى بن هلال. روى عنه أبو بكر ابن أبي مريم أيضا كما في " الجرح والتعديل " (2 / 1 / 29) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في " الثقات " فهو مجهول الحال. وهذا الأثر في " كتاب الروح " (ص 92) كما نقله المؤلف لم يتكلم على إسناده بشيء. وفيه بعده أثر مجاهد الآتي معلقا بغير إسناد
(4) أي ملخصا وإلا فليس هو لفظ ابن القيم C ولا سياقه وهو في (ص 115 - 116) منه
[الصفحة 103]
فإنها كانت روحا سفلية ومنها أرواح تكون في تنور الزناة وأرواح تكون في نهر الدم تسبح. وليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك فضل اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا ". إلى آخر ما قال
والمفهوم منه أن مستقرها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها إيمانا وكفرا وصلاحا وفسقا وأنت تعلم اختلاف العلماء فيما قال وما رواه الإمام مالك في " الموطأ ": " إنما نسمة المؤمن (1) طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه ". (2) والله تعالى أعلم
(1) أي روحه (طير) أي كطير (يعلق) أي يأكل. وكان الأصل (معلق) فصححته من " الموطأ " (1 / 238) وغيره. قال ابن القيم في شرح الحديث (ص 112) :
يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها ويكون لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون الروح في صورة طائر وهذا اختيار ابن حزم وابن عبد البر
قلت: ومن الملاحظ أن لفظ الحديث هنا (المؤمن طير) وفي الشهداء " في أجواف طير " كما تقدم قريبا فمن العلماء من جعلهما حديثا واحدا وحمل حديث مالك على هذا ومنهم من جعلهما حديثين كان القيم وغيره فقال ابن كثير في " تفسيره " (1 / 427) : " وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة " وأما أرواح الشهداء فكما تقدم " في حواصل طير خضر " فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها "
ونحوه في " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز (ص 455 - 456) . طبع المكتب الإسلامي
(2) قال ابن كثير: " إسناده صحيح عزيز عظيم اجتمع في ثلاثة من الأئمة الأربعة فإن الإمام أحمد رواه عن الإمام الشافعي وعن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا
قلت: وهو مخرج في " الصحيحة " (995)
[الصفحة 104]
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين (1) والمقصود أن عند هذا الفرقة المبطلة مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض
وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع والكلبية إلى أبدان الكلاب والبهيمية إلى أبدان البهائم والدنية السفلية إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسخية منكري المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم
قلت: وإن ما تقوله اليهود الآن قريب من هذا فإن عندهم أن الميت تنتقل روحه إلى غيره إلى ثلاث مرات أي تنتقل من شخص إلى آخر ثم إذا مات تنتقل إلى آخر ثم إلى ثالث ثم إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن على ما ذكر لي أحد علمائهم
مسائل:
الأولى: هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟
وجوابها على ما في " كتاب الروح ": (2)
(1) وقد بين ذلك وشرحه شرحا مبسطا في " مجموع الفتاوى " (4 / 262 - 270) وصرح في مكان آخر (4 / 292) : " أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافا لضلال المتكلمين وأنها تصعد وتنزل خلافا لضلال الفلاسفة "
(2) (ص 17) وقد ساق لها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والتابعية لكن الأحاديث التي أوردها ليس فيها ما يحتج به من قبل إسناده وقد فاته حديث أبي هريرة وفيه: ". . . وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض. . . " الحديث. وسنده حسن وصححه السيوطي عن معارفهم من أهل الأرض. . . " الحديث. وسنده حسن وصححه السيوطي وقد خرجته في " الصحيحة " (2628)
[الصفحة 105]
" إن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها
الثانية: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟
وجوابها: نعم قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} روى أبو عبد الله بن منده بسنده (1) إلى ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها
والقول الثاني في الآية: أن الممسك والمرسل في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله (2)
(1) قلت: فيه جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ابن حجر
(2) قلت: وقد واجه ابن القيم (ص 20 - 21) كلا من القولين: وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار القول الثاني. . ثم رجح هو القول الأول ثم أفاد من التحقيق أن الآية تتناول النوعين: الوفاة الكبرى وهي الموت والوفاة الصغرى وهي النوم فراجع كلامه إن شئت التفصيل وبذلك فسر الآية ابن كثير ثم قال (4 / 55) :
فيه دلالة على أنها تتجمع في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره
[الصفحة 106]
الثالثة: هل الروح تموت أم الموت للبدن وحده؟
وجوابها: أن الناس اختلفوا في ذلك فقالت طائفة: تموت وتذوق الموت لأنها نفس والنفس ذائقة الموت. قالوا وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده قال الله تعالى: {كل من عليها فان} وقال تعالى: {كل شئ هالك إلا وجهه} قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت. (1)
وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى في أجسادها ولو ماتت الأرواح لا نقطع عنها النعيم والعذاب وقال الله تعالى: {ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت. وقد نظم أحمد بن الحسين
(1) قال ابن رجب (31 / 2) : " وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي A أنه كان إذا دخل المقابر قال: السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية. . . الحديث خرجه ابن السني ولا يثبت وعبد الوهاب ابن جابر التيمي لا يعرف وشيخه حبان بن علي ضعيف "
قلت: وهو مخرج في (الضعيفة) (4186) ومن المؤسف أن يورده في جزء صغير انتخبه من (الجامع الصغير) كأنه لم يجد فيه من الأحاديث الصحيحة ما يملأ فراغ جزئه متى لجأ إلى مثله ولكنه الجهل بهذا العلم الشريف. والله المستعان
قلت: والمراد بالفناء والهلاك المذكورين في الآيتين بالنسبة للأرواح إنما هو خروجها من أبدانها. وليس عدمها مطلقا فإنها لا تفنى كالجنة والنار ونحوهما. وقد جمعها ابن القيم فقال في " الكافية الشافية " (1 / 97 - شرح
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرض والكرسي ونار وجنة وشجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وذكره النار فيها وأنها باقية لا تفنى هو الصواب من قوله كما بينته في مقدمتي لكتاب " رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " للعلامة الصنعاني وسيقدم للطبع قريبا
[الصفحة 107]
الكندي (1) ذلك في قوله:
تنازع (2) الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب
الرابعة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف وكذا اختلفوا في أنها هل هي النفس أو غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم [هي] ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟
أما مسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد وتأخرها عنها فللعلماء فيها قولان معروفان وممن ذهب إلى من تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم وحكاه إجماعا؟ (3) و [من] أدلتهم (4) قوله تعالى في سورة
(1) نسبة إلى " كندة " محلة بالكوفة ولد فيها وهو أبو الطيب المتنبي الشاعر المشهور. توفي سنة (354)
(2) كذا في النسخ الثلاثة وفي " ديوان المتنبي) : (تخالف) . وقال شارحه العكبري (1 / 59) ما ملخصه: " (الشجب) : الهلاك والحزن. والمعنى: أن الناس يتخالفون في كل شيء والإجماع على الهلاك فكلهم يقولون: إن منتهى الناس الموت فيهلكون ثم تخالفوا في الموت فقال قوم: هل تموت النفس بموت الجسم أم تبقى حية لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} ؟ وقال قوم: هل نبعث إذا متنا؟ والخلف في الموت كثير وهم قد أجمعوا عليه بغير خلاف والخلاف فيه كثير وقد بينه فيما بعده بقوله: فقيل تخلص نفس المرء. . . ويعني بالنفس: الروح ويشير إلى قول المؤمنين: إن الروح تسلم من العطب وهو الهلاك بخلاف الدهريين الذين يقولون بأن الروح تفنى كالجسد
(3) في " الملل " (4 / 70 - 71)
(4) الأصل (أدلتهم) والتصويب من النسخة الثالثة
[الصفحة 108]
الأعراف: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} . قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا ولم تكن الأبدان حينئذ موجودة وقوله A: " إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (1)
وأجاب عن ذلك من يقول بتأخر خلق الروح عن البدن بأجوبة مطولة والعلامة البيضاوي (2) حمل الآية على التمثيل في " تفسيره " (3) وفي
(1) رواه ابن منده بإسناده عن عمرو بن عنبسة مرفوعا كما في " الروح " (ص 160) ثم قال (ص 172) " لا يصح إسناده فيه عتبة بن السكن قال الدارقطني: متروك. وأرطأة ابن المنذر قال ابن عدي: بعض أحاديثه غلط "
قلت: وهو البصري وأما أرطأة بن المنذر الحمصي فثقة. لكن فوقهما عطاء بن عجلان وهو متروك أيضا فهو حديث ضعيف جدا إن لم يكن موضوعا اللهم إلا قوله: " فما تعارف. . . . " فهو طرف من حديث صحيح معروف. لكن في المسألة أحاديث أخرى كثيرة تغني عن هذا الحديث من أصرحها حديث ابن عباس مرفوعا: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ب (نعمان) يوم عرفة وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: {ألست بربكم قالوا: بلى} " وهو حديث صحيح بل هو متواتر المعنى كما بينته في " الصحيحة " (1623)
(2) نسبة إلى (بيضاء) : بلدة من بلاد فارس - قرب شيراز. وهو العلامة عبد الله بن محمد الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين وهو قاض مفسر مشهور مات سنة (685) . C تعالى
(3) وهو المعروف ب " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " (3 / 33) قال في معنى الآية: " نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل وخلق الاستعداد فيهم وتمكنهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا وتخييلا فلا قول ثم ولا شهادة حقيقة ". وقد تعقبه جماعة منهم العلامة علي القاري في " المرقاة " فقال (1 / 140) :
وفيه أن هذا يرجع إلى مذهب المعتزلة
ومنهم الخطيب الكازروني في حاشيته عليه رد عليه تأويله المذكور بكلام قوي. ومما قاله: " إن الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر القرآن برأيه إذا وجد نقلا معتمدا عن السلف فكيف بالنص القاطع من النبي A؟ ". فراجعه فإنه منهم
ومنهم الإمام الشوكاني في " فتح القدير " (2 / 250 - 252) . وصديق حسن خان في " فتح البيان " (3 / 404 - 409) وكتابه " الدين الخالص " (1 / 391) . و " أضواء البيان " (2 / 335 - 338) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهم الله تعالى
[الصفحة 109]
" شرحه للمصابيح " على تأخر خلقها بأدلة مفصلة منها قوله E: " إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ". (1) واستدلوا أيضا بغير هذا مما هو مفصل في كتاب الروحين " روح المعاني " لوالدنا المبرور (2) [نور الله تعالى روضته] (3) و " الروح " (4) لابن القيم فراجعهما إن شئت
أما [الكلام على] بقية المسائل فقد قال ابن القيم: (5)
والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدله العقل والفطرة
(1) أخرجه الشيخان والأربعة وغيرهم من حديث ابن مسعود Bهـ مرفوعا وهو مخرج عندي في تخريج
السنة " لابن أبي عاصم (175 - 176) ولا حجة فيه لما استدلوا به عليه كما هو ظاهر
(2) قلت: وقد أطال النفس فيه جدا (ص 155 - 160 ج 3) ورد فيه تأويل البيضاوي المذكور وقال: " يأبى عنه كل الإباء حديث ابن عباس " (يعني الذي ذكرته آنفا) . ثم ذكر أن المعتزلة ينكرون أخذ الميثاق التالي المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنه من جملة الآحاد فلا يلمنا أن نترك ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب. ثم سرد كلماتهم في ذلك وردها كلها
(3) زيادة في النسخة الأولى
(4) (ص 156 - 175)
(5) في كتابه " الروح " (ص 178 - 179) ومثله في " شرح العقيدة الطحاوية "
[الصفحة 110]
أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا لهذه (1) الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإدارة وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح قال الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي} "
وإن أردت استقصاء أبحاثها فعليك بكتاب " الروح " فإنه يهب لك روحا وينيلك فيما ترجوا نجحا وإن شئت أن ترد قالا وقيلا فتذكر قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}
[هذا] وأصخ بفكرك نحو ما قلته وتدبر جميع ما زبرته وتأمله تأمل طالب للحق غير كاتم للقول الصدق ولا تنظر بعين الحاسد فتلفى لضوء الشمس جاحد (2) إذ لم يبق والفضل لله سبحانه مجال لإنكار المكابرين ولا حجة بعد هذا للمعاندين وغير المطلعين
فلنكتف بهذا المقدار لئلا يطول الكتاب على ذوي الأنظار ويكفي لكل ذي رأي سديد من القلادة ما أحاط بالجيد ولا سيما وقد تكفلت
(1) في " شرح الطحاوية " " ساريا في هذه الأعضاء " وسواء كان هذا أو ذاك فإن تعليل الموت بهذا السبب يشبه الفلسفة عندي لأنه لا دليل عليه من نقل أو عقل بل كم من شخص مات فجأة وأعضاؤه سليمة قوية في عز المنعة والقوة
(2) كذا في النسخ الثلاثة ومحله النصب وسكن على لغة طيء. والله أعلم
[الصفحة 111]
بتفصيل هذه المسائل كتب العلماء المتقدمين والأئمة المحققين الأفاضل والله سبحانه الهادي إلى صوب الصواب والمسمع للجماد كلام الأحياء إذا شاء كما أسمع سارية كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. (1)
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أشرفهم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين
قلت: جاء في آخر الأصل المطبوع عنه ما نصه:
وقد كملت هذه الرسالة تأليف شيخنا العلامة الحبر البحر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي آلوسي زاده رئيس المدرسين ببغداد حماه الله تعالى من كيد الحساد وأدام به نفع العباد آمين
في 8 ربيع الثاني سنة 1329
وهو يشعر بأنه منقول عن أصل نسخ في حياة المؤلف C تعالى

الصفحة 91