كتاب الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (اسم الجزء: 1)
ثم نعارض هذا القول ونقول: لو كانت أفعالنا خلقاً لنا ومنفردين بإيجادها لكنا عالمين بعدد حركاتنا وكيفية وقوعها منا قبل الفعل وبعده لأن الله أخبر أن الخالق يعلم ما خلق بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 1.
وأما استدلال هذا المخالف على معناه الذي أورده بقوله: لما كانت ألواننا وصورنا خلقاً لله لم تقع تحت إرادتنا وقصدنا، فالجواب عنه أن نقول: ليس امتناع ألواننا وصورنا بحسب إرادتنا كونها خلقاً لله، وإنما العلة بامتناع وقوعها حسب إرادتنا وقصدنا كونها غير كسب لنا2، ألا ترى أن جماعنا لما كان كسباً لنا إذا قضى الله وقوعه منا يقع يقصدنا واختيارنا ونثاب عليه إذا وقع فيما يحل ونعاقب عليه إذا وقع بما يحرم، والولد المخلوق من الجماع لما لم يكن كسباً لنا ولم يقدرنا الله، بل قد يقصد الغني الجماع ليكون منه الولد فلا يكون، وقد يجامع الفقير فيعزل كراهة الولد فيكون منه الولد فلم يقع بحسب إرادتنا وقصدنا3.
__________
1 الملك آية (14) .
2 الأولى في هذا أن يقال: إن هذا مثال مع الفارق لأن الألوان والصور هي من خلق الله وليست كسباً للعباد وقد قال الله عزوجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران آية (6) ، فالتصوير فعل الله عزوجل وخلقه وله فيه المشيئة المطلقة وليس للإنسان في ذلك أي كسب، وهذا بخلاف أفعال العباد فإنها خلق لله وكسب للعباد.
3 قول المصنف هنا "والولد المخلوق من الجماع لما لما يكن كسباً لنا ولم يقدرنا الله عليه…" يرده قول النبي - صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة - رضي الله عنها-: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" اخرجه ت. كتاب الأحاكم 3/639، د. كتاب البيوع 2/108، حم 6/41، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الولد من كسب أبيه، لأن الأب هو الذي تزوج ثم جامع فإذا ارتفعت الموانع حصلت النتيجة بإذن الله وهي الولد، وهو في هذا مثل التجارة والزراعة فإن الإنسان يتخذ الأسباب ويجتهد في ذلك وقد تربح التجارة وقد تخسر وقد يظهر الزرع وقد لا يظهر، فربح التجارة وظهور الزرع من كسب التاجر والزارع وهو بإذن الله، أما إذا لم تربح التجارة ولم يظهر الزرع فذلك لأن الله لم يرد ذلك حيث صارت هناك موانع منعت من حصول النتائج المرجوة لأن تحقيق النتائج المرجوة من الأعمال بيد الله عزوجل ومشيئته، وقد جعل الله لكل شيء سبباً وقول المصنف (إن الفقير قد يعزل كراهة الولد فيكون منه الولد وأن ذلك واقع بغير إرادتنا) غير صحيح، لأن هذا واقع بكسبنا وعملنا حيث فعلت الأسباب ولو لم تفعل الأسباب لم يأت الولد، إلا أن تحقيق النتائج المرجوة من العمل هي بيد الله عزوجل وإرادته القاهرة لكل شيء لهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن العزل قال: "لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". أخرجه م. كتاب المكاح 2/1061 من حديث أبي سعيد وعنه أيضاً مرفوعاً: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء" م. 2/1064، فهذا يدل على أن الله عزوجل إذا أراد أمراً هيأ له أسبابه والحمل بالولد لا يكون إلا بعمل وتهيئة أسباب وهي من قبل العبد.