كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

الْجَزْلِ الْفَصِيحِ فَلَا يَكَادُ يَخْتِمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَائِهِ مَا نَقَصَ مِنْ مَنْصِبِ فَصَاحَتِهِ، وَهَكَذَا تَجِدُ الْقَصِيدَةَ الْوَاحِدَةَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى نَسَقِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَوْ عَلَى تَكْرَارِهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ عَلَى حِفْظِ وَبُلُوغِ غَايَةٍ فِي إِيصَالِهَا إِلَى غَايَتِهَا، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَادٍّ وَلَا تَعَارُضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْبَشَرِ أَنْ يُدَانُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْهُ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ الْأُولَى وَالْفَصَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ - وَهُمُ الْعَرَبُ - لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُمْ أَحْرَصُ مَا كَانُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ فِيهِ وَالْغَضِّ مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا وَعَايَنُوا مَعَانِيَهُ وَتَفَكَّرُوا فِي غَرَائِبِهِ، لَمْ يَزِدْهُمُ الْبَحْثُ إِلَّا بَصِيرَةً فِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَارُضَ، وَالَّذِي نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ يَسِيرٌ تَوَقَّفُوا فِيهِ تَوَقُّفَ الْمُسْتَرْشِدِ حَتَّى يُرْشَدُوا إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، أَوْ تَوَقُّفَ الْمُتَثَبِّتِ فِي الطَّرِيقِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَهْلَ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ وَحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَاهُ، وَايْمُ اللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا مِنْ عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلَنَّ بِنَا أَمْرٌ نَعْرِفُهُ الْحَدِيثَ.
فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَإِنَّ مُعَارَضَةُ الظَّوَاهِرِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ رَأْيٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ.

الصفحة 819