كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ.
فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ - وَهُوَ الشَّرْعُ - وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ - وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ - لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ حَاكِمًا عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.

الصفحة 840