كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ، وَلَمْ يَقِفْ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا.
وَالتَّاسِعُ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ نَفَاهُ لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا - فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا. وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ قُصُورُ إِدْرَاكِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ قُصُورُهُ فِي إِدْرَاكِهِ إِذَا دُعِيَ مِنَ التَّرْكِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟ فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.
وَالْعَاشِرُ: تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا - إِلَى آخِرِ مَا يُنْطَقُ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ - وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ. وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وَعَظَّمَهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]

الصفحة 844