كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْعُلَمَاءُ حُكَّامًا عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ قَضَاءً أَوْ فُتْيَا أَوْ إِرْشَادًا، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، فَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ مِنْ جِهَةِ مَا اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارُوا حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ مَرْجُوعًا إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ حَمْلِهِمْ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفِ الْحُكْمِ مَعَ فَرْضِ خُرُوجِهِمْ عَنْ صَوْتِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ لَيْسُوا حُجَّةً إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونُوا حُكَّامًا؟ هَذَا مُحَالٌ.
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَالِمِ بِالْعَرَبِيَّةِ: مُهَنْدِسٌ، وَلَا فِي الْعَالِمِ بِالْهَنْدَسَةِ: عَرَبِيٌّ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الزَّائِغِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: حَاكِمٌ بِالشَّرْعِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِعَقْلِهِ أَوْ بِرَأْيِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاكِمَ يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ.
ثُمَّ نَصِيرُ مِنْ هَذَا إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُرَتَّبٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ إِذَا اتُّبَعَ فِي قَوْلِهِ، وَانْقَادَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّمَا اتُّبِعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ وَحَاكِمٌ بِهَا وَحَاكِمٌ بِمُقْتَضَاهَا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَلِّغٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَتَلَقَّى مِنْهُ مَا بَلَّغَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَلَّغَ، أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا هُوَ

الصفحة 857