كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

بَيْنَ النَّاقِلِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَابُدَّ لَهُ هَاهُنَا مِنَ الرُّجُوعِ آخِرًا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَقْلِيدُ مُخْتَلِفِينَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُمْكِنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِهِمَا كَانَ عَمَلُهُ بِهِمَا مَعًا مُحَالًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ صَارَ عَمَلُهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. بَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا قَائِلَ بِهِ. وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجِدُ صُورَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَعُمُولًا بِهَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا وَاحِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْهُ، وَالْعَامِّيُّ جَاهِلٌ بِمَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، فَلَابُدَّ لَهُ مِمَّنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمَا. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَامِّيِّ بِطَرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ، وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالطَّالِبُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَقْرَبُ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذًا؛ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَاكِمًا بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُصَمِّمَ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي تَقْلِيدِهِ الْخَطَأُ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ قُطْرِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَهْلُ قُطْرِهِ فِي التَّفَقُّهِ فِي مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةٍ الْخَطَأُ وَالْخُرُوجُ عَنْ صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى

الصفحة 861