كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

وَالتَّصْوِيبُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَمُوَافَقَتُهُمْ لِمَنْ قَلَّدُوا، أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُقَلِّدُونَ بِالْعَرْضِ، فَلَا يَسَعُهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعَرُّضُهُمْ لِلِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَتِهِ. فَإِنْ فُرِضَ انْتِصَابُهُ لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، أَصَابَ أَمْ لَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ الدَّرَجَةِ وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِصَابَتُهُ - إِنْ أَصَابَ - مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَخَطَؤُهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، فَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ كَسَائِرِ الْعَوَامِّ إِذَا رَامُوا الِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَامِّيِّ كَالْعَدَمِ، وَأَنَّهُ فِي مُخَالَفَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ آثِمٌ مُخْطِئٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ - مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ - تَقْلِيدُ غَيْرِ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَتَى فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ؟
وَلَقَدْ زَلَّ - بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ - أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ جَادَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَلْنَذْكُرْ عَشَرَةَ أَمْثِلَةً:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشَدُّهَا، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْآبَاءِ فِي أَصْلِ الدِّينِ هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى رَدُّوا بِذَلِكَ بَرَاهِينَ الرِّسَالَةِ، وَحُجَّةَ الْقُرْآنِ وَدَلِيلَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. فَحِينَ نُبِّهُوا عَلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]

الصفحة 863