كتاب الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (اسم الجزء: 2)

وَلَقَدْ لَجَّ بَعْضُهُمْ حِينَ وُجِّهُوا بِالنَّصِيحَةِ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْمُقْرِئُ أَقْرَبَ مَرَامًا مِنْهُمْ.
حُكِيَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِقُرْطُبَةَ مُقْرِئًا يُعْرَفُ بِالْقُرَشِيِّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَارِئٌ يَوْمًا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرَشِيُّ " تَحِيدٌ " بِالتَّنْوِينِ، فَرَاجَعَهُ الْقَارِئُ - وَكَانَ يُحْسِنُ النَّحْوَ - فَلَجَّ عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ وَثَبَتَ عَلَى التَّنْوِينِ. فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ إِلَى أَنْ بَلَغَ يَحْيَى بْنَ مُجَاهِدٍ الْأَلْبِيرِيَّ الزَّاهِدَ - وَكَانَ صَدِيقًا لِهَذَا الْمُقْرِئِ - فَنَهَضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ بَعُدَ عَهْدِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْرِئٍ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَ ذَلِكَ عَلَيْكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَبْتَدِئَ بِالْمُفَصَّلِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ الْمُقْرِئُ: مَا شِئْتَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ فَلَمَّا بَلَغَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ بِالتَّنْوِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا تَفْعَلْ، مَا هِيَ إِلَّا غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ بِلَا شَكٍّ. فَلَجَّ الْمُقْرِئُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ مُجَاهِدٍ تَصْمِيمَهُ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنِّي لَمْ يَحْمِلْنِي عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْكَ إِلَّا لِتُرَاجِعَ الْحَقَّ فِي لُطْفٍ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ أَوْقَعَكَ فِيهَا قِلَّةُ عِلْمِكَ بِالنَّحْوِ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا يَدْخُلُهَا التَّنْوِينُ، فَتَحَيَّرَ الْمُقْرِئُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمُصْحَفُ. فَأَحْضَرَ مِنْهُ جُمْلَةً فَوَجَدُوهَا مَشْكُولَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَرَجَعَ

الصفحة 868