كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور

نتحدث لأنك قد صرت لي صديقا فقلت لها: يا سيدتي، وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته قالت: نعم إنني لا أعرف حالك قدام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عليك شيئا وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقيا إلى الآن في البلاد الشرقية، وقد تعلمته وأتقنته فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها فكل منا ولد لنار من تلك النيران المساوية التي تولت أمر ولادتنا وتأثيرها، إما حسن وإما رديء وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشيتنا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معا منذ قرن كامل مع أنني لم أرك إلا منذ بضع دقائق.
فقلت باسما: مهلا يا سيدتي إنني لا أنكر ما أجهل ولا أثبت ما لا يوجد في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء أو يرتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دونه الكائنات تحت سلطة كائنات أعظم منها كالكواكب والملائكة إلا أنني أحتاج إلى وحيهم لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاوة.
وأما أسار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجازف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوق أن يوضحها لي، فأمر المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه، وفي الحرية والفضيلة. قالت: ما لي ولهذا فاعتقد فيما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة أنجم سعيدة، قادرة، صالحة فاعتقد مثل تلك الصفات وهي تشوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك وقد أرسلك الله إلي لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسنت نواياهم وطابت سريرتهم ويستنفذ منك الله بإنقاذ الأعمال العجيبة التي يريد أن يجريها بين الناس وهذا جواب كاف وبعد أن أطالا الجدال في هذا الباب.
قالت له: وهل ترى في سياسته ودينه ومعشره كامل الانتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لابد من موح وفاة وهو المسيح الذي تنتظره وتطير شوقا إليه فلا ترى أحد موافقا لك في ذلك، وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح، وأني أتوقع أكثر من الناس كلهم قدوم مصلح يقوم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل فإن كان ذلك المصلح هو ما تسميه مسيحا فهذا أنتظره مثلك، وأرجو أن يظهر بعد أمد وجيز وأطالت الكلام في هذا الباب وقالت لي: اعتقد كما تشاء، أما أنا فعندي أنك رجل من الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك العناية إلي وسيكون لك دخل كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمانها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم، ستشترك فيه، ولم أعلم بعد كيف يكون ذلك، ولكنني إن شئت أذكر لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها فقد رأيت منها أكثر من ثلاثة فهي أربعة أو خمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نورا، واللسان طلاقة وطلاوة، وأنت شاعر لا محالة لن في عينيك، والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما ولد تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمه سعيدا وإذا كان سعيدا فلما يخلو من مفاعيل نجم آخر خبيث يقارنه أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعت كلها على أن تخدمك وهي تتعاون على ذلك فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي قالت: هذه أول مرة سمعت به، ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن اسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحور والجبال حتى يصل إلى الشرق قالت: سيان عندي كونك شاكرا أو غير شاعر فإنني أحبك ولي فيك أمل أتحقق أننا سوف نلتقي ثانية فإنك سترجع إلى الغرب، ولكن لا تلبث حتى تعود إلى الشرق فإنه وطنك، قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإن وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رجلك فإنها أشبه برجل رجل عربي، وما زلنا نتحادث حتى دخل عبد أسود فخر على وجهه ساجدا أمامها ويداه على رأسه؟، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها، فالتفتت إلي وقالت: قد هيئ لك الطعام فاذهب فكل، أما أنا فلا أواكل أحدا لأن عيشتي عيشة نسكية فاغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع

الصفحة 31