كتاب إحياء علوم الدين (اسم الجزء: 3)

ذكرت عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه وربما قطب وجهه إذا ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ومريد له والله مطلع عليه في ذلك
فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه فإذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه فنعوذ بالله من الغفلة والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال
هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه
فمنهم فرقة اقْتَصَرُوا عَلَى عِلْمِ الْفَتَاوَى فِي الْحُكُومَاتِ وَالْخُصُومَاتِ وَتَفَاصِيلِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ لِمَصَالِحِ العباد وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم المذاهب وَرُبَّمَا ضَيَّعُوا مَعَ ذَلِكَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فلم يتفقدوا الجوارح ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين وكذا سائر الجوارح وَلَمْ يَحْرُسُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وسائر المهلكات
فهؤلاء مغرورون من وجهين
أحدهما من حيث العمل
والآخر من حيث العلم
أما العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم أدواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض ولكن يقول ربما تقع علة الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور
فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات والديات والدعاوي والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة والمال وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية
هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى فإنه وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث العمل
وَأَمَّا غُرُورُهُ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ فَحَيْثُ اقْتَصَرَ على علم الفتاوى وظن أنه علم الدين وترك كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبَّمَا طَعَنَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ إِنَّهُمْ نَقَلَةُ أَخْبَارٍ وَحَمَلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَفْقَهُونَ وَتَرَكَ أَيْضًا عَلِمَ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَرَكَ الْفِقْهَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِدْرَاكِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَهُوَ العلم الَّذِي يُورِثُ الْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالْخُشُوعَ وَيَحْمِلُ عَلَى التقوى فتراه آمناً من الله مغتراً به متكلاً على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه وأنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو غافل مغرور وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الْفِقْهَ هُوَ الْفِقْهُ عَنِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ الْمُخَوِّفَةِ وَالْمَرْجُوَّةِ لِيَسْتَشْعِرَ الْقَلْبُ الْخَوْفَ وَيُلَازِمَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قومهم إذا رجعوا}

الصفحة 393