كتاب عالم الجن والشياطين

وزعم فريق من المحْدَثين (بفتح الدال المخففة) : أن الجن هم الجراثيم والميكروبات التي كشف عنها العلم الحديث.
وقد ذهب الدكتور محمد البهي إلى: أن المراد بالجن الملائكة، فالجن والملائكة عنده عالم واحد لا فرق بينهما، ومما استدل به: أن الملائكة مستترون عن الناس، إلا أنه أدخل في الجن من يتخفى من عالم الإنسان في إيمانه وكفره، وخيره وشره (¬1) .
عدم العلم ليس دليلاً:
وغاية ما عند هؤلاء المكذبين أنه لا علم عندهم بوجودهم، وعدم العلم ليس دليلاً (¬2) ، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده، وهذا مما نعاه الله على الكفرة: (بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه) [يونس: 39] . وهذه المخترعات الحديثة التي لا يستطيع أحد أن يكابر فيها، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها، حتى إذا اخترعنا (الراديو) ، واستطاع التقاط ما لا نسمع بآذاننا صدقنا بذلك؟!

يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في ظلاله متحدثاً عن النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله، فاستمعوا منه القرآن.
" إنَّ ذكر القرآن لحادث صَرْفِ نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وحكاية ما قالوا وما فعلوا، هذا وحده كافٍ بذاته لتقرير وجود الجن، ولتقرير وقوع الحادث، ولتقرير أنّ الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق، كما يلفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدون للهدى وللضلال، وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة، فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها سبحانه ثبوتاً.
ولكنّا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني.
إنّ هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهاً وصفةً وأثراً، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار، نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها، وتارة بصفاتها، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا.
ونحن ما نزال في أول الطريق، طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا، ويعش أبناؤنا وأحفادنا، على ذرة من ذراته الصغيرة؛ هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئاً يذكر في حجم الكون أو وزنه!
وما عرفنا اليوم - ونحن في أول الطريق - يُعدّ بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم، لظنه مجنوناً، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعاً!
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية، المعدة للخلافة في هذه الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سَخّرَه الله لنا؛ ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولاً، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سُخّر لنا من قوى الكون، وكُشِفَ لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة؛ ما نحتاج إليه للخلافة في هذه الأرض، وفق حكمة الله وتقديره.
وسنكشف كثيراً، وسنعرف كثيراً، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مِمّا قد تعدّ أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة، وفي حدود قول الله سبحانه: (وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً) [الإسراء: 85] قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وَقَيّومه، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: (ولو أنَّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) [لقمان: 27] .
فليس لنا والحالة هذه أن نجزم بوجود شيء أو نفيه، وبتصوره أو عدم تصوره، من عالم الغيب والمجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي، أو تجاربنا المشهودة، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلاً عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!
وقد تكون هنالك أسرار، ليست داخلة في برنامج ما يُكشَف لنا عنه أصلاً، وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يُكْشَف لنا عن كنهه، فلا يُكْشَف لنا إلا عن صفته أو أثره، أو مجرد وجوده؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.
فإذا كَشَفَ الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم، نتلقاها كما هي، فلا نزيد عليها، ولا ننقص منها؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقّى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار! ".

والقول الحق أن الجن عالم ثالث غير الملائكة والبشر، وأنهم مخلوقات عاقلة واعية مدركة، ليسوا بأعراض ولا جراثيم، وأنهم مكلفون مأمورون منهيون.
¬_________
(¬1) تفسير سورة الجن: ص 8.
(¬2) ليس لهم أن يحتجوا بما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان ينكر مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم للجن وتكليمهم له، فإن إنكاره هنا للمشافهة لا للجن، ومع ذلك فغير ابن عباس كابن مسعود - يثبت مشافهة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

الصفحة 13