كتاب دستور الأخلاق في القرآن

والبصيرة النافذة -غير خالق وجودها ذاته: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1؟
فمن ذلكم النور اللانهائي يجب أن أقتبس نوري، وإلى ذلكم الضمير الأخلاقي المطلق يجب أن أتوجه لهداية ضميري: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2.
فبدلًا من أن نقول: "العقل المحض Raison transcendentale" -يجب أن نقول: "العقل العلوي raison transcendante"، وبدلًا من الاستناد إلى تجريد تصوري ذهني -يجب أن نلجأ إلى ذلكم الواقع المحس، الحي، العليم، الذي هو "العقل الإلهي", فنور الوحي وحده هو الذي يمكن أن يحل محل النور الفطري؛ ذلك أن الشرع الإلهي الإيجابي هو الذي يجب أن يستمر، ويكمل الشرع الأخلاقي الفطري.
وفي القرآن يسير العقل والنقل معًا، جنبًا إلى جنب، وهو ما يفهم من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3. وفي قلب المؤمن يستقر نوران، على حين لا يجد الملحد سوى نور واحد، وهذا هو معنى رمز النور المزدوج في قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} 4.
هل معنى ذلك أن علينا أن نفرق بين مصدرين مختلفين للإلزام الأخلاقي؟ كلا ... فنحن بالآحرى نراهما مستويين لمصدر واحد، أقربهما إلى الناس هو أقلهما نقاء، وذلك أن هذا النور المكمل ليس قريب المنال، ولا سلطان له
__________
1 الملك: 14.
2 البقرة: 216.
3 الملك: 10.
4 النور: 25.

الصفحة 34