كتاب دستور الأخلاق في القرآن

وليس يخرج عن هذا السياق تلك العظة البليغة التي وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إلى متخاصمين قبل أن يفصل بينهما، قال -صلوات الله عليه- فيما روي عن أم سلمة: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 1.
وفضلًا عن ذلك كان يحدث له أحيانًا، وهو يؤم صلاة الجماعة أن ينسى، أو يزيد فيها بعض التفاصيل، مما يخالف صحتها. وفي ذلك يروي البخاري: فلما سَلَّمَ قيل له: يا رسول الله، أحدَث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك"؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون, فإذا نسيت فذكروني" 2 ... إلخ.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلن في موقف معين أنه معصوم، حين يكون مبلغًا -كما رأينا- أمرًا، بوصفه رسول الله، فإذا ما بلغ رسالته، وبينها للناس واستودعها ذاكرة الجماعة، فإن النقص الفطري الذي لا يفتأ يصيب انتباه الإنسان مهما يكن عقله قويًّا ذكيًّا -قد يجوز أن يظهر أحيانًا عنده، ولكن مع فارق هام هو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يستمر مطلقًا على رأي خاطئ وإذا لم يعد إلى الصواب بالطريق المعتادة فإن الوحي يتدخل حتمًا لتصحيح خطئه، وإقامته على الصراط المستقيم، وإلا وقعت الجماعة كلها في الخطأ، والتزمت باتباعه في طريق الضلال. والله سبحانه يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
__________
1البخاري, كتاب الأحكام, باب 19.
2 البخاري, من حديث في كتاب الصلاة, باب 31.

الصفحة 40