كتاب دستور الأخلاق في القرآن

لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} 1.
فلولا هذا التقويم المستمر لنجم عن تخلفه أن تصبح كل أوامر النبي وأحكامه التي لم يقومها الوحي -موافقًا عليها ضمنًا، ولتلقاها الناس، ومعهم الحجة البالغة، على أنها أحكام إلهية. وقس على ذلك سائر أحواله, حين يعمل، فهي معدودة من حيث المبدأ أمثلة يُقتدى بها، وينظم المسلمون على أساسها سلوكهم، ما لم يصدر عنه ما ينقضها.
وموجز القول: أن كل حديث صحيح لم يرد ما ينسخه، وكان موضوعه جزءًا من رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحيث أصبح في نهاية الأمر تعبيرًا عن الإرادة الإلهية -هذا الحديث له في نظر المسلمين نفس السلطة الأخلاقية التي للنص القرآني. ولو اشتمل الحديث علاوة على ذلك، تفصيلات وتحديدات، أكثر مما اشتمل عليه النص القرآني -فإن هذا الحديث هو الذي يحكم النص القرآني2 فهو يفسره، ويحدد أهميته، ويبين نماذج تطبيقه.
__________
1 التوبة: 115.
2 "السُّنة قاضية على الكتاب" - نص حديث أورده الدارمي في السُّنة - المقدمة - باب 48. بيد أن أحمد بن حنبل حين سئل عن هذا الحديث قال: "لا أجرؤ أن أقول هذا, وإنما أقول: إن السُّنة تفسر القرآن وتبينه"، ولا شك أنه يريد بهذا أن يقول: إذا كان راوي الحديث قد أورد الفكرة الأساسية فإنه قد استخدم تعبيرًا غريبًا، أو جريئًا بعض الشيء، بحيث يبدو أنه يقلب الترتيب المعتاد بين السُّنة والقرآن، والواقع أنه لو حدث أن رويت عبارة منسوبة إلى النبي، وكانت غير متفقة مع مبدأ مقرر في القرآن، فإننا نرفض هذه العبارة وجوبًا، على أنها غير صحيحة. ومن ذلك عبارة: "إن الميت يعذب ببكاء أهله" - فقد ردتها عائشة، ذاهبة إلى أنها يجب أن تكون رواية مشوهة محرفة؛ نظرًا لتعارضها مع الآية القرآنية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] التي تضع مبدأ هو: أن أحدًا لا يمكن أن يتحمل وزر غيره. "البخاري, كتاب الجنائز, باب 32".

الصفحة 41