كتاب صور من الحياة الاجتماعية في المدينة

6…
المساجد في دمشق، ومعي أبني الصغير، أدلّله في النزول من الدرج بقولي له ((تاتي حبه حبه تاتي شقح العتبة)) فما لمحت الرجل إلا وقد انفتل اليّ متهلل الوجه، على محياه تطلع واستشراف، يحمل معاني ومعاني، وينم عن تساؤل، فقال لي بلغته الشامية وبلهجة الأمالة ((أهلين يا ابني)) فصافحته ورددت علية التحية، فسألني من أين أنت؟ وقبل ان اجيبه أجاب هو عني وقال: من المدينة! والله أني أحس رائحة المدينة تغشي جميع جسدي، والله أني أحس كل نقطة في جسمي تحولت الى أنف تستروح أنسام طيبة، ان الكلمات التي سمعتك تدلل بها أبنك على طريقة أهل المدينة القدامى طالما سمعتها من والدي الذي كان يدللني بها حتى وبعد ان كبرت عن الطفولة كنت اسمع انواع الدلال المدني منه حتى وانا في سن الخامس عشرة، لأني كنت وحيده بين اخوتي الاناث الذين يبلغون في العدد ((ست بنات)). طلب مني الرجل بالحاح شديد أن أذهب معه إلى الدار، ولو خمس دقائق أحدثه فيها عن المدينة المنورة. فلقد طال بعده عنها حيث قال: فأنا بعد خروجنا منها طفلا لم ازرها إلا مرتين وفي كل مرة نمكث ثلاثة شهور فقط، وكانت آخر زيارة لها قبل خمسين عاماً. فأجبته الى الذهاب معه واخذته بسيارتي في طرق متعرجة حتى وصلنا الى داره، وهي من الطراز الشامي القديم، التي يتوسطها ساحة تحيط بها بعض الغرف، وفي مركزها ((بحرة)) ((أو بريكة ماء)) ((أو فسقية)) وحولها جلسة لطيفة مزينة بالنباتات المنزلية، وهنالك اجلسني وابني بجواره بعد ان احضر لي وبسرعة كبيرة كأسا من عصير التوت وكأسا لابني، وقد كان متلهفا ان يسألني عن كل شئ، يسألني ولا ينتظر الجواب، بل هو يجيب عني في معظم الأحيان، قال: أخبرني عن المسجد النبوي الشريف وعن الحجرات الشريفة، وعن الأغوات، حدثني عن حصباء المسجد مركز حلقات القرآن كل يوم بعد العصر، حدثني عن الكتاتيب التي في مؤخرته، حدثني عن منائره الخمسة التي كان يصدح عليها في كل فرض خمس من المؤذنين في أطوافها الأولى، يبدأهم صاحب المنارة الرئيسية، ويتبعونه بالتسلسل بصوت أخاذ خاشع، ينبه الغافل، ويستحث المستيقظ، ويخطف بالقلوب، ويحلق بالمشاعر في معارج الروح، خبرني عن اصحاب المتاجر الصغيرة، والتي كانت في اعيننا كبيرة، هل لايزالون يفتتحون يومهم بصلاة الفجر بالمسجد النبوي ثم يخرجون في الوقت المبارك الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم ((بارك الله لأمتي في بكورها)) ثم يشرعون دكاكينهم، فاذا باع أحدهم سلعة ثم جاءه زبون آخر يدفعه إلى جاره ليستفتح معه بالبيع، هل لازال هذا الأيثار باقيا، خبرني عن حلق العلم بالمسجد النبوي التي كانت بمثابة الروضات، روضة للحديث، وروضة للفقه، وروضة للنحو، وروضة للقرآن، وروضة للسيرة،…

الصفحة 6