كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر
وكان اليازوري جيد السياسة، حسن الأخلاق كثير التجمل، حتى يقال: كانت مائدته كل يوم يحضرها القضاة والفقهاء والأدباء، وكان طلق الوجه، ظاهر البشر، كثير الصمت قليل الكلام. وكان إذا رضى احترت وجنتاه، وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه فقط. وقيل: إن ذلك غاية ما يكون في صحة الطباع، وسكون النفس، واعتدال المزاج. وما كان يقول (لا) في شيء يسأله، بل إذا سئل فيما يمكن
الإجابة عليه قال (نعم) . وإذا سئل في غير ذلك يطرق ولا يرفع رأسه، وعرفوا ذلك منه. فكان لا يراجع فيه إلا بعد مدة.
وكان إذا نزل به أمر استشار فيه، وسمع ما يقال ولا يصوّب أحداً منهم ولا يخطئه، ثم عمل بأحزم ما يقدر عليه من ذلك.
ويقال: كان ارتفاع الدولة في مباشرته ألفي ألف دينار في السنة. فلما انقضت أيامه ودس أعداؤه عليه الأقاويل الباطلة، طلب المستنصر من ولده أبي عبد الله الملقب صفي الدين أن يعمل له دعوة. فبالغ الولد المذكور في ذلك وحضر المستنصر وقد احتفلوا له، فرأى ما أذهله من الفرش والآلات وغير ذلك. فحقد عليه ورأى أعداؤه السبيل إلى التقوّل عليه، فبالغوا حتى قالوا إنه احتاز مال الدولة كله، وجعله مثل سبائك الشمع، وأرسلها إلى الشام وقصد الهرب، فل يشعر في أول يوم من المحرم سنة خمسين وأربعمائة إلا وقد قبض عليه واعتقل، وقرر بعده في الوزارة أبو الفرج الباهلي، وفي القضاء أحمد بن عبد الحاكم الفارقي، وكان استقراره في العشر الثالث من صفر كما سيأتي.
وكان اليازوري هو الذي اصطنع البالي وقدمه وجعله كبير الديوان. فلما قبض عليه كتب إليه رقعة يستعطفه ويوصيه إلى أن صار الأمر إليه على أولاده وعائلته. فنظر البابلي فيها وذلك قبل أن يلي الوزارة، ولم يجب عنها. فلما وليا لوزارة قال لمن عنده: انظروا إلى هذا الكذاب يخاطبني بنون العظمة. وهو على شفير القبر! وأل أمره معه إلى أن سعى في إخراجه من الاعتقال
بتنيس وإنما فعل ذلك ليتمكن من قتله، وكان كذلك. فأخرجه هو ونساءه وحاشيته فاعتقلوا، ثم أخذ البابلي في الترتيب على اليازوري، حتى اتفق أن الأجناد شغبوا على البابلي، فدخل وهو مذعور على المستنصر، وشكا حاله، فقال: لا يتم لي أمر واليازوري موجود. فقال له طِبْ نفساً فإنا لا نعيده. قال:
الصفحة 133
550