وكان ذا عفة ونزاهة وسؤدد كامل، وعقل وافر، ومهابة زائدة. وكان عارفاً بالأحكام ثبت الجنان يقظاً، كثير التنقيب عن نوابه، ولا سيما في البلاد. وولي الوزارة مرة مضافة إلى القضاء، وذلك في سنة سبع وثمانين، وصرف بعد قليل.
واتفق أن الوزير ابن السَّلْعُوس عاداه، فسعى على عزله، فعزل بالبرهان السنجاري عن مصر والوجه القبلي، فمات البرهان بعد قليل، فأعيد التقي في عاشر صفر
سنة ست وثمانين، فباشر على عادته وتشدد في الأحكام إلى أن رَاسَله الوزير في أمر شخص يقال له نجم الدين ابن عطايا، أن يقرره في بعض الوظائف، وأن يثبت عدالته، وكان غير أهْلِ لذلك، فامتنع. فلما مات المنصور وتولى الأشرف تمكن ابن السلعوس في التحدث في المملكة، فلم يزل إلى أن صرفه عن القضاء، ثم أخرج وظائفه عنه واحدة بعد واحدة. فلما رأى ذلك، رأى مُدَاراته، فمدحه بقصيدة طويلة، وحضر عنده واستأذنه في إنشادها، فأذن له فأنشدها له، فأظهر استحسانها.
ولم يزل ما في نفسه منه حتى رتب عليه شهوداً يشهدون عليه بأمور منكرة حتى قيل إن جملتها كانت خمسين قادحاً. منها الزنا واللواط وشرب الخمر والتَّزَيِّي بالنصارى. وقرر الوزير مع السلطان أن يرفع أمره لبعض الحكام فيسمع البينة عليه، ويمضي حكم الشرع، فأذن له في ذلك. فعقِد له مجلس وادعى عليه، فشهد جماعة عليه بأمور معضلة. فقام فقال: يا معاشر الأمراء والعلماء أنا فلان ابن فلان ابن فلان، وساقَ نَسَبه، ليس في نَسبي بُطرس ولا جرجس، وإذا زعموا أني أشربُ الخمر أو ازني ربما يقبل من اجل شهوة النفس، ولكن شَدّ الزُّنَّار، والتكلم بالكفر، من أي وإلى أين وما الذين لي فيه من اللذة! وأكثر من البكاء والابتهال في حق من كذب عليه. فقام من حضر من الأمراء وهم يبكون، حتى دخلوا على السلطان وعلموا أن لوايح التعصب ظهرت. وأن القاضي بريء من ذلك فأمر بإطلاقه. فلزم بيته إلى أوان الحج فحج. ثم زار المدينة وأنشد تجاه المنبر قصيدة طويلة نبوية، شكى فيها حاله، فذكر أنه رأى في المنام البُشرى بأنه ينتصر وأصبح فرحاً.
واتفق بأنه بلغهم الخبر بقتل السلطان والوزير، وتغيّرت الدولة، فأعيد إلى القضاء في صفر سنة ثلاث وتسعين، وباشر على عادته، وسار سيرته الأولى إلى