كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر

يجيئهم إلى الخبر بتقرير الإخنائي، فسعى عليه حتى صرفه في خامس ربيع الأول منها، واستقر في ولايته الثانية. واستمر الإخنائي يسعى فيعزله، ثم يسعى هو فيعزله الآخر. وأقوى حجة الإخنائي عند أهل الدولة، إن شئتم قاض كريم وإن شئتم قاض عالم فكانا كذلك قدر ثلاث سنين. وقد حررها لي القاضي تاج الدين ولد القاضي جلال الدين، ونقلتها من خطه فقال: الولاية الأولى من رابع جمادى الآخرة سنة أربع وثمانمائة إلى سلخ العشرين من شوال سنة خمس وثمانمائة عوضاً عن الصالحي. والولاية الثانية من استقبال ربيع الأول سنة ست وإلى اثنان شعبان منها عوضاً عن الإخنائي. والولاية الثالثة من ثالث ذي الحجة منها وإلى خامس عشر ربيع الآخر سنة سبع عوضاً عنه. والولاية الرابعة من خامس عشر ذي القعدة سنة سبع إلى النصف من صفر سنة ثمان عوضاً عنه. والولاية الخامسة من رابع ربيع الأول منها وإلى الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر عوضاً عنه - إلا أنه في هذه حصل خَلل بالباعوني بالشام وهو خمسة عشر يوماً لا غير - والولاية السادسة من نصف ربيع الأول سنة عشر، وإلى العاشر من شوال سنة أربع عشرة عوضاً عن الهروي إلى أن تعصب جمال الدين البيري وقد استقر مشير الدولة وأستادار الملك الناصر، فاستصحب الإخنائي صحبة العسكر في سفرة سافرها السلطان
إلى الشام، فقرره في قضاء الشام وخلا وجه القاضي جلال الدين.
واستمر وباشر المنصب بحُرمة وافرة، مع لين الجانب والتواضع، وبذلك المال والجاه. كل ذلك تجدد له من شدة ما قاساه من سعي الإخنائي، لكنه كان كثير الانحراف، قليل الاحتمال، سريع الغضب، لكن يندم ويرجع بسرعة. وقد صَحِبته قدر عشرين سنة، فما أضبط أنه وقعت عنده محاكمة فأتمها، بل يسمع أولها ويفهم شيئاً فيبني عليه، فإذا روجع فيه بخلاف ما فهمه، أكثر النزق والصياح، وأرسل المحاكمة لأحد النواب. وما رأيت أحداً ممّن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه، بحيث إنه كان إذا طرق سمعه شيء لم يكن يعرفه، لا يَقرُّ ولا يهتدي ولا ينام، حتى يقف عليه، ويحفظه.
وكان مع ذلك مكباً على الاشتغال محباً في العلم حق المحبة. وكان يذكر أنه لم يكن له تقدم اشتغال في العربية، وأنه حج في حياة والده فشرب من ماء زمزم لفهم هذا العلم. فلما رجع، أدمن النظر فيه، فمهر في مدة يسيرة فيه، ولا سيما منذ مات والده.

الصفحة 227