من غير تقدم فِيهَا، ولكن محاضرته إليها المنتهى، وهي أمتع من محاضرة الشيخ شمس الدين الغماري.
ولما دخل الديار المصرية تلقاه أهلها وأكرموه، واكثروا ملازمته والتردد إِلَيْهِ.
فلما ولي المنصب تنكَّر لهم، وفَتَكَ فِي كثير من أعيان الموقعين والشهود. وقيل إن أهل المغرب لما بلغهم أنه ولي القضاء، عجبوا من ذك، ونسبوا المصريين إِلَى قلة المعرفة، حَتَّى إن ابن عرفة قال لما قدم إِلَى الحج: كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب. فلما بلغنا أن ابن خلدون ولي القضاء، عددناها بالضدّ من ذَلِكَ.
ولما دخل القضاة للسلام عَلَيْهِ، لَمْ يَقُم لأحدٍ منهم، واعتذر لمن عاتَبه عَلَى ذَلِكَ. وباشَر ابن خلدون بطريقة لَمْ يألفها أهل مصر، حَتَّى حصل بينه وبين الركراكي تنافس، فعقد لَهُ مجلس، فأظهر ابن خلدون فتوى زعم أنها خط الركراكي، وهي تتضمن الحط عَلَى برقوق. فتنصل الركراكي من ذَلِكَ، وتوسل بمن اطلع عَلَى الورقة فوجدت مدلسة. فلما تحقق برقوق ذَلِكَ عزله، وأعاد ابنَ خير. وذلك فِي جمادى الأولى سنة سبع وثمانين. فكانت ولايته الأولى دون سنتين. واستمر معزولاً ثلاثَ عشرة سنة وثلاثة أشهر، وحج فِي سنة تسع وثمانين. ولازَمه كثير من الناس فِي هَذِهِ العطلة وحَسَّنَ خُلقه فِيهَا، ومازح الناس، وباسَطَهم، وتردد إِلَى الأكابر وتواضَع معهم. ومع ذَلِكَ لَمْ يغير زيه المغربي وَلَمْ يلبس زي قضاة هَذِهِ البلاد. وَكَانَ يحب المخالفة فِي كل شيء.
ولما مات ناصر الدين ابن التَّنَسِيّ، طلبه الملك الظاهر، فوجده توجه إِلَى الفيوم بسبب بلد القميحة وَكَانَ لَهُ نصيب فِي تدريسها. فحضر صحبة بريديّ ففوض إِلَيْهِ القضاء فِي خامس عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة. فباشر عَلَى عادته من العسف والجنَف. لكنه استكثر من النواب والشهود والعقاد، عَلَى عكس مَا كَانَ
فِي الأول، فكثرت الشناعة عَلَيْهِ، إِلَى أن صُرِف ببعض نوابه، وهو نور الدين ابن الجلال صرفاً قبيحاً، وذلك فِي ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. وطلبَ إِلَى الحاجب الكبير فأقامه للخصوم وأساء عَلَيْهِ بالقول. وادعوا عليه بأمور كثيرة أكثرها لا حقيقة لَهُ. وحصل لَهُ من الإِهانة مَا لا مزيد عَلَيْهِ وعزل.
ثم مات ابن الجلال بعد أربعة أشهر فِي جمادى الأولى، فولي جمال الدين الأَقْفَهْسِيّ، ثُمَّ صرف بعد أربعة أشهر أيضاً فِي رمضان. وأعيد ابن خلدون، وذلك