كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر

بعد مجيئه من الفتنة العظمى، وخلاَصه منها سالماً. وكانوا استصحبوه معهم معزولاً، فتحيَّل لما حاصر اللَّنكُ دمشق إِلَى أن حضر مجلسه، وعرَّفه بنفسه فأكرمه وقَرَّبه. وَكَانَ غرضه استفساره عن أخبار بلاد المغرب، فتمكن منه، إِلَى أن أَذِنَ لَهُ فِي السفر وزوَّده وأكرمه. فلما وصل، أعيد إِلَى المنصب، فباشره عشرة أشهر. ثُمَّ صرف بجمال الدين البساطي إِلَى آخر السنة. وأعيد ابن خلدون وسار عَلَى عادته. إِلاَّ أنه تبسط بالسكن عَلَى البحر، واكثر من سماع المطربات، ومعاشرة الأحداث، وتزوج لَهَا أخ أَمْرَد يُنسب للتخليط فكثرت الشناعة عَلَيْهِ.
هكذا قرأت بخط جمال الدين البشبيشي فِي كتابه (القضاة) . قال: وَكَانَ مع ذَلِكَ أكثر من الازدراء بالناس، حَتَّى شهد عنده الأستادار الكبير بشهادة فلم تُقبَل شهادته، مع أنه كَانَ من المتعصبين لَهُ. وَلَمْ يشتهر عنه فِي منصبه إِلاَّ الصيانة، إِلَى أن صرف فِي سابع شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة. ثُمَّ أعيد فِي شعبان سنة سبع، فباشر فِي هَذِهِ المرة الأخيرة بلين مفرط وعَجز وخَور. وَلَمْ يلبث أن عزل فِي أواخر ذي القعدة.
وقرأت بخط البشبيشي؛ أنه كَانَ يوماً بالقرب من الصالحية، فرأى ابن خلدون وهو يريد التوجه إِلَى منزله وبعض نوابه أمامه، وهو تاج الدين بن الظريف. فالتفت فرأى البشبيشي، فتلا قوله تعالى: (وَإذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) فلما وصل ابن خلدون، عاتب ابن الظُّرَيِّف، فقال: لِمَ تَلوْتَ هَذِهِ الآية؟ فقال: اتفق كذا، فقال: بل أردت أن البشبيشي يبلغ جمال الدين البساطي.
وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي فِي وصف تاريخ ابن خلدون: (مقدمته لَمْ يعمل مثالها، وإنه لَعزيز أن ينال مجتهد مَنَالها، إذ هي زُبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، توقف عَلَى كُنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدُّر النَّظيم، وألطفُ من الماء مَرَّ بِهِ النسيم) . انتهى كلامه.
وما وصفها بِهِ فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام عَلَى الطريقة الجاحظية مُسَلَّم لَهُ فِيهِ، وأما مَا أطراه بِهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ فليس الأمر كما قال، إِلاَّ فِي بعض دون بعض، إِلاَّ أن البلاغة تزين بزخرفها، حَتَّى تُرِي حَسناً مَا لَيْسَ بالحَسَن.

الصفحة 236