كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر

وصف بأنه بلغ رتبة الاجتهاد، وتخرج بِهِ جماعة. وَكَانَ قائماً بالأمر بالمعروف، لا يخاف فِي ذَلِكَ كبيراً ولا صغيراً، مع الزهد والتقشف، والورع والتفنن فِي العلوم.
وولي خطابة الجامع الأموي مدة. ثُمَّ اتفق أن الصالح إسماعيل ابن العادل، سلّم للفرنج بعض بلاد الساحل، فشق ذَلِكَ عَلَى أهل الخير. وخطب ابن عبد السلام، فلم يذكر الصالح فِي خطبته، وحطَّ عَلَيْهِ. فبلغ ذَلِكَ الصالح فعزله من الخطابة، وضيّق عَلَيْهِ بعد أن كَانَ حبسه مدة. ثُمَّ أفرج عنه بواسطة فرنجي كَانَ رآه وسمع قراءته، وهو فِي خيمة مُرَسَّماً عَلَيْهِ، فسأل عنه فقيل لَهُ: هذا كبير المسلمين. فأنكر أن يعامل مثلُه بمثل ذَلِكَ. فأفرج الصالح عنه. فتوجه إِلَى مصر، فتلقاه الصالح أيوب ابن الكامل ابن العادل، وفوّض إِلَيْهِ خطابة الجامع العُمري، وقضاء مصر والوجه القبلي عوضاً عن ابن عين الدولة بعد وفاته. وَكَانَ قرر فِي قضاء القاهرة والوجه البحري بدر الدين السنجاري. وَكَانَ مرَّ فِي توجهه إِلَى مصر، بالناصر داود ابن المعظم ابن العادل صاحب الكرك وهو بِهَا، فبالَغ فِي إكرامه، وسأله أن يقيم عنده فقال: هَذَا بلد ضيق عن علمي. وَكَانَ فِي قدومه إِلَى مصر رافق ابن الحاجب المالكي. وذكروا أنه لما قدم إِلَى مصر. ترك لحافظ الدين الكتابة عَلَى الفتوى. وَكَانَ كل منهما يحضر مجلس الآخر. وَكَانَ كثير التواضع لا يهتم بأمر مأكول ولا مشروب.
ومما اشتهر من شهامته، أنه حضر مجلس السلطان وَكَانَ اطلع عَلَى حانة يباع فِيهَا الخمر، ويفعل فِيهَا المنكرات. فقال: يَا أيوب كيْفَ يسعك فِي دينك أن تكون الحانة الفلانية فِي سلطانك؟ فقال: يَا مولانا، أنا مَا عملت هَذَا، بل هو من زمان أبي. فقال: أفترضى أن تكون ممن يقول يوم القيامة (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) فما وسعه إِلاَّ أن أمر بإِبطال ذَلِكَ.
وسئل الشيخ بعد أن انفصل المجلس. كيْفَ تجسرت عَلَى هَذَا السلطان مع شدة سطوته؟ قال: رأيته قَدْ تعاظَم فِي موكبه، فأردتُ أن أهينه. فقيل لَهُ: فما خفته؟ فقال: استحضرت هيبة الله فِي قلبي، فصرتُ أراه كالقط. واستمر عَلَى هَذِهِ الطريقة إِلَى أن ترك جميع المناصب والولايات.

الصفحة 240