وكان الناصر قَدْ عظمه، وفوض إِلَيْهِ تعيين قضاة الشام. وَكَانَ يعتكف العشر الأخير من رمضان. فذكر شهاب الدين ابن قايماز - وَكَانَ معروفاً بالصدق - أنه دخل عَلَيْهِ فِي معتكفه، فسأله قضاء حاجة لشخص من الناس، فلم يرد عَلَيْهِ جواباً، فغضب. وَكَانَتْ لَهُ منزلة من الأمير شيخون، وهو يومئذ المشار إِلَيْهِ فِي تدبير المملكة، فقال يخاطبه: يَا مولانا، هَذَا حرام عَلَيْكَ، والتصدي لفصل أحكام المسلمين أفضل من هَذَا. وترك الواجب للنفل ممنوع. فلما أكثر عَلَيْهِ، قال لَهُ: أنا لي خليفة قَدْ تصدى لذلك فاكتفيت بِهِ. قال: لا تبرأ ذمتك بذلك. فلم يلتفت لذلك. فقلت: إن لَمْ ترجع عن هَذَا لأرفعن الأمر للسلطان. فلما رأى بعض من حضر أني غضبت سارَّه، فقال: يَا ولدي أنت تحب العلم والفقهاء، ولا تحضر مجلسي فِي الحديث، مَهْمَا كَانَ لَكَ من حاجة، فأعلمني ولا تنقطع عني. قال: فأفرطتُ فِي تعنيفه، وبينت لَهُ مَا الناس فِيهِ مع المناوي، وانصرفت عنه.
قال: ودخل إِلَيْهِ شاب مات أبوه وبيده وظيفة، فسأله فِيهَا فقال: خَرَجَتْ فألحَّ عَلَيْهِ، فقال لَهُ: الوظائف لا تورث. فقام من عند مكسور الخاطر. فدعا عَلَى أولاده أن لا تَقَرَّ بهم عينه ولا ينفعهم بشيء من وظائفه، فأُجيبت دعوته فيهم. وَلَمْ ينجب منهم إِلاَّ حفيده شيخنا عز الدين. لكن فِي العلوم لا فِي غيرها، بحيث أنني شاهدته والناس ينتفعون بما خلَّفه ابن عمه برهان الدين ابن جماعة، ولا يصل هو إِلَى شيء منه، مع شدة حاجته إِلَيْهِ حَتَّى منزل السكن.
واتفق أنه عزم عَلَى الحج فِي شهر رجب سنة أربع وخمسين، فخطب بجامع القلعة واستأذن على السلطان بعد الصلاة، وأعلمه بأنه عزم عَلَى الحج والمجاورة، فساعده شيخون، فقال لَهُ السلطان: فَعَيِّنْ لَنَا من يصلح للمنصب فقال: تاج الدين المناوي، وأطراه، ووصفه بالخير والقيام بأمر المنصب. فأعفاه السلطان وقرر تاج الدين، وَلَمْ يكن التاج حاضراً هَذَا المجلس، واعتذر العز لشيخون بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فِي المنام وذكر مَا يدل عَلَى الإِشارة إِلَيْهِ بالسفر والمجاورة، ثُمَّ توجَّه.
فلما حضر عنده التاج عرَّفه أن السلطان ولاَّه فأظهر التمنع، فألزمه بالقبول فقبل واشتهر ذَلِكَ. وأصبح الناس يوم السبت يسعون فِي جهات التاج، حَتَّى قال شيخون للقضاة الثلاثة رفقته لما حضروا عنده القصر، يسألونه فِي عدم صرف عز الدين، وأنه يحصل بِهِ وبتقرير المناوي فساد كبير. فقال لهم: منذ وَقَع هَذَا إِلَى هَذِهِ الساعة،