فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان والبيان الذي ليس وراءه بيان، أثبت فيه أنه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى هو ما تؤول إليه تلك الآيات في الواقع ككيفية صفات الله تعالى، وكيفية عالم الغيب من الجنة، والنار، وما فيهما، فلا يعلم أحد غيره تعالى كيفية قدرته، وتعلقها بالإيجاد، والإعدام، وكيفية استوائه على العرش، مع أن العرش مخلوق له، وقائم بقدرته، ولا كيفية عذاب أهل النار، ولا نعيم أهل الجنة كما قال تعالى في هؤلاء: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬1).
فليست نار الآخرة كنار الدنيا، وإنما هي شيء آخر، وليست ثمرات الجنة، ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم، وإنما هو شيء آخر يليق بذلك العالم إلى أن قال: إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواصفات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره (¬2).
وهذا الكلام من السيد رشيد رضا سديد، وقامت الأدلة عليه، ويأتي بعضها.
والمقصود هنا بيان المحكم من المتشابه، ثم تقرير أن المتشابه يدرك منه معنى، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله غير هذا المعنى الذي يدرك من المتشابه، وليس المنقول عن السلف، والتابعين مما يخالف هذا.
فقد سئل سعيد بن جبير: ما المحكم قال: المفصل (¬3).
وأكثر السلف على أن المتشابه هو المنسوخ، وهو المأثور عن ابن عباس (¬4)، وابن
¬__________
(¬1) سورة السجدة: آية (17).
(¬2) تفسير المنار (3/ 172).
(¬3) المعرفة (1/ 241، 515).
(¬4) تفسير الطبري (6/ 174) 65756573.