اتساع مفهوم النسخ عند التابعين:
مما ينبغي الانتباه إليه أن مفهوم النسخ عند التابعين كان أوسع من مفهومه الذي استقر في أصول الحديث، والفقه، والتفسير، وعلوم القرآن، فإن السلف ربما أطلقوا لفظ النسخ على التخصيص، أو التقييد (¬1)، بل وبيان ما أبهم أولا أي بعبارة أخرى:
كانوا يرون كل ما أثبت حكما في مسألة جديدا مخالفا ولو من بعض الوجوه لحكم المسألة المتقدم فإنهم يجعلونه نسخا.
قال شيخ الإسلام: والنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل، وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية بل قد لا يفهم منها، وقد فهمه منها قوم، فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخا (¬2).
وبهذا يزول كثير من الإشكال حول كثرة المنقول عنهم في باب النسخ، وتضاده أحيانا، فهو إنما كان بسبب اتساع بعضهم في مفهوم معنى النسخ وشموله لغيره، ولذا نجد في عباراتهم كثيرا جملة: ثم نسخ واستثنى.
فمن ذلك ما جاء عن عكرمة والحسن في تفسير قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (¬3)، قالا بعد أن ذكرا آيات القتل، ومنها: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (¬4) قالا: فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض وأبطل ما كان قبل ذلك، وقال في التي تليها: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ}
¬__________
(¬1) يراجع في الفرق بين النسخ والتخصيص: الاعتبار للحازمي (23، 24)، ومناهل العرفان للزرقاني (2/ 186184).
(¬2) مجموع الفتاوى (13/ 29، 30)، ويراجع تيسير العزيز الحميد (535).
(¬3) سورة النساء: آية (90).
(¬4) سورة التوبة: آية (2).