كتاب تفسير التابعين (اسم الجزء: 2)

واقتضى مني ذلك أن أبحث عن عوامل أخرى لذلك، وتوصلت إلى أن عدة عوامل تؤثر في الاتجاه الفكري للمدرسة، منها المكان وإن لم يكن العامل الأساسي كما أسلفت، ومنها والله أعلم ولعله الأهم عامل شخصية الشيخ، وقرب التلاميذ منه، وكثرة أخذهم عنه، لقد كان أثر شخصية ابن عباس مثلا أثرا قويا تعدى نطاق الحجاز، فأثر في كثير من مفسري العراق، فالسدي وإن كان كوفيا فإنه بسبب كثرة اشتغاله بتفسير ابن عباس وروايته نجده قد تأثر بالمنهج المكي أكثر، وكذلك الحال بالنسبة
لسعيد بن جبير الكوفي، ونلحظ ذلك التأثر في كثرة مروياته وموافقاته لابن عباس، في حين قلّت مروياته عن شيخ الكوفة ابن مسعود.
فإذا انتقلنا إلى البصرة فإننا نجد أن أبا العالية أقرب إلى منهج المدرسة المكية منه إلى المدرسة البصرية.
وقد لا يكون التأثر بشخصية الشيخ، وإنما يكون بالمنهج نفسه، فعطاء وإن كان من المدرسة المكية إلا أنه أقرب إلى المنهج المدني وأهل الأثر، وابن سيرين البصري كان يؤثر منهج الشعبي الكوفي ويرضى عنه، ولم يكن هذا حاله مع أهل بلده كالحسن، ولا مع كوفي آخر كإبراهيم.
* ومن جهة أخرى رأيت أنه مع قلة الاتصال بين ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وعدم رواية ابن عباس عنه، فإن التقارب كان كبيرا بين أصحاب المدرستين، بل يمكن أن يقال: أن المدرسة المكية أكثر المدارس تأثيرا في عموم مفسري التابعين، من نشأ بها ومن لم ينشأ بها، فأبو العالية البصري مثلا أقرب فيما ظهر لي من عطاء إلى المدرسة المكية، وجابر بن زيد، والسدي، وسعيد بن جبير كما سبق مكيو المشرب والتصنيف.
* ولقد بدا لي أن يكون تصنيف المدارس على أسس الاتجاهات الفكرية في التفسير، لا على المكان، فتكون هناك مدرسة المجتهدين وتشمل: مجاهدا، والحسن، وعكرمة.
وهناك المدرسة الأثرية، ويكون من أصحابها أهل المدينة كسعيد بن المسيب، وعروة، وكذلك قتادة، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير.
* ومن النتائج التي تمخضت عنها هذه الدراسة أيضا مما يتعلق بالمدارس: إبراز مدرسة البصرة بوصفها مدرسة مستقلة لها نتاجها المتميز في التفسير، وقد دأب
الباحثون فيما اطلعت عليه أن يدمجوها مع الكوفة، ويتحدثون عن المدرستين باسم المدرسة العراقية، مما ترتب عنه إغفال إفرادها بالحديث، وإهمال النظر في منهجها، مع أنها لا تقل شأنا عن مدرسة الكوفة، بل هي في نظري أهم منها لأن نتاجها التفسيري أكثر وأعمق، ناهيك عن أن من الكوفيين المكثرين من هو مكي الاتجاه كسعيد بن جبير، والسدي.

الصفحة 1169