وقد يلحظ الباحث أسبابا أخرى لهذه الكثرة في المنقول، اجتهادا عنهم، لعل أبرزها هو شخصية شيخ المدرسة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فلقد كان ترجمان القرآن ابن عباس ممن فتح الله عليه استجابة لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، عند ما دعا له بالفقه، والحكمة، ولقد أعمل رضي الله عنه الفكر والاستنباط في استخراج المعاني العظيمة، والاجتهادات القيمة من الآيات، ولا أدل على ذلك من قول شقيق بن سلمة، قال: خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأها ويفسرها، فجعلت أقول: ما رأيت، ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت (¬1).
أضف إلى ذلك ما حباه الله من قوة حافظة، وذكاء فطري، ونظر ثاقب، كل هذا أثر في شخصية الآخذين عنه.
وإذا عرفنا أن ابن عباس رضي الله عنه لم يكتف فقط بإلقاء العلم على تلاميذه حتى أضاف إلى ذلك المنهج التربوي (¬2). اتضح لنا بذلك مدى الأثر الذي تركه في نفوس المكيين من تلامذته، بل وسواهم ممن تتلمذ عليه من أهل الآفاق كأبي العالية، وغيره.
لقد كان ابن عباس يأمر أصحابه بالانطلاق في الاجتهاد، والتصدي لإفتاء الناس بما علموه منه وسمعوه، فقد ذكر سعيد بن جبير أنه لما جلس مع ابن عباس، وجاء سائل أمر ابن عباس سعيدا أن يفتيه بحضرته مدربا له ومربيا على الاجتهاد، في حين توقف التابعون عن الفتيا بحضرة شيوخهم في سائر المدارس التفسيرية الأخرى.
¬__________
(¬1) وقد سبق تفصيل ذلك، وإيراد العديد من النصوص المبينة لمدى علمه بالتأويل وتقدمه فيه رضي الله عنهما ينظر ص (383).
(¬2) سبق بيانه في ترجمته رضي الله عنهما ص (390).