كتاب تفسير التابعين (اسم الجزء: 1)

أأن البصرة سبقت مدائن العالم الإسلامي في وضع قواعد النحو، حتى إنها سبقت قرينتها الكوفة التي كثيرا ما تقرن بها في جانب النحو، فيقال: (مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين) لأن الكوفة كانت بعيدة عن الحركة التجارية الواسعة التي كانت تعج بها أسواق البصرة، والتي أدت إلى اختلاط اللسان العربي بغيره من اللغات، ولا سيما اللغات التي كانت منتشرة في الهند، والمشرق، في حين كانت الكوفة مقرا للعنصر العربي ولم يحصل لها هذا الاختلاط، فحافظ ذلك على
لسانها (¬1).
وكان من المتوقع والحالة هذه أن يتقدم الكوفيون على البصريين في اللغة، إلا أن العكس هو الذي حدث لأن أهل البصرة لما شعروا بخطورة هذا الاختلاط على اللغة، بادروا فقعدوا القواعد التي من شأنها حفظ اللسان والتزموا بها في غالب مناحي الفكر، وعامة نتاج العقل، حفظا للسانهم من الدخيل الوارد ولأجل هذا نجد أن هذه الخصيصة اللغوية تعدت إلى غير التفسير من العلوم الأخرى.
ب لقد عاش في البصرة الكثير من الموالي الذين دخلوا في الإسلام طواعية، وأحبوا لغة القرآن وتأدبوا بها، ورأوا تقدمها على لغاتهم الأصلية، وألسنتهم الأولى، فانكبوا على دراستها والاعتناء بها، بل وتقيدوا بها في أمورهم العامة والخاصة، لما شعروا بحاجتهم إليها واعتماد فهم الدين، واستنباط الأحكام على هذه اللغة العظيمة.
وظهر ذلك في نبوغ الكثير من الموالي في مجال اللغة والأدب، فإذا ذكر النحو مثلا انصرفت الأذهان إلى سيبويه، وإذا ذكر الوعظ والعبارات الوعظية المؤثرة، أسرع إلى المخيلة اسم الحسن البصري، وهكذا يحاول الإنسان دائما أن يعوض ما فقده مما يحبه، ويقدمه على غيره، فلما أحب الموالي الإسلام ولغة القرآن اشتغلوا بها، كما أنه لما أحب العرب الجهاد تفانوا فيه، وقد ترتب على هذه المحبة أن تشدد البصريون في شأن القياس اللغوي، فصاروا لا يقيسون إلا على ما كثر، ولا يقيسون على الشاهد الواحد، ولا النادر، في حين لم يتشدد الكوفيون وهم عرب أقحاح مثل هذا التشدد، فيقيسون على ما ورد، ولو نادرا، ويقيسون على الشاهد الواحد، ولو لم يأت في الباب غيره (¬2).
ج لقد ساعد موقع البصرة الجغرافي من اتصال البصريين بأهل اللسان، والنهل
¬__________
(¬1) كتاب الشافعي لأبي زهرة ص (57).
(¬2) ينظر مقالة بيئة البصرة من مجلة الأزهر العدد (1/ محرم سنة 1366هـ) ص (86).

الصفحة 561