وإذا كان لنا وقفة لبيان مكانة البصرة النحوية، فإنها تكون مع سيبويه فلقد وضع كتابه (الكتاب)، وقد أحاط فيه بقواعد النحو وأصوله، وكثير من فروعه، وعلله، وحكمة الواضع فيما وضع، وكثير من أقيسته، وقد سار الكتاب سير الشمس في جميع الأقطار الإسلامية، واشتغل الناس به درسا، وتمحيصا، وفهما، وشرحا، واختصارا، بل إنه لم يخدم كتاب في العربية مثل ما خدم كتاب (الكتاب) لسيبويه، وقد كان العلماء المتقدمون لا يرونه يعلم النحو فقط، وإنما يعلم الابتكار والاستنتاج أيضا، وقد كانوا يستكثرون على قدرة عالم واحد أن ينتج مثل (الكتاب) فتخيلوه لاثنين وأربعين عالما، قال ثعلب: اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه (¬1).
وقد تكون هذه مبالغة، إلا أن هذا الأمر على فرض وقوعه، فهو يدل على تقدم علماء البصرة في النحو حتى اجتمع منهم أكثر من أربعين نفسا، وهو عدد كبير له دلالاته وأبعاده (¬2).
وقد برزت الخصيصة اللغوية في النتاج الكثير المنقول عن المدرسة البصرية في التفسير، فامتلأت تفسيراتهم بالعبارات الجزلة، والألفاظ الفصيحة، بل إن الإنسان قد يصيب كبد الحقيقة إذا قال: إن اللغة حفظت من جانب المدرسة البصرية أكثر من باقي المدارس مجتمعة.
ومما يدل على ذلك أن المروي عن المدرسة البصرية في كتب غريب الحديث والمعاجم أكثر بكثير من باقي المروي عن المدارس مجتمعة، فقارب ما روي عن الحسن وحده مجموع ما روي عن المكثرين غيره في المدارس الأخرى، كما تقدم الإشارة إليه
¬__________
(¬1) ينظر مقالة بيئة البصرة ص (84)، ومدرسة الحديث في الكوفة (60).
(¬2) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة (36).