كتاب تفسير التابعين (اسم الجزء: 1)

أما المدرسة المدنية فاستغنت بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وكثرة المروي من الحديث فيها، فاتجهت للوعظ بالحديث والأثر، في حين أن المدرسة العراقية التي كان نصيبها من الحديث قليلا اتجهت فيها الهمم إلى ما روي عن التابعين من مواعظ وآثار فجمعت، وتناقلتها الألسن.
وتبعا لذلك فقد انتشر الزهد عند العراقيين، وصارت الكتب المؤلفة في الزهد عراقية المبدأ، والمشرب، وظهرت كتب الزهد، لوكيع، وهناد، وابن المبارك، وهي عراقية، في حين قل أن تجد مرويات في الزهد عن أئمة الحجاز (كابن المسيب، والزهري) وغيرهما في عامة كتب الوعظ والرقائق، بل يمكن القول بأن بذرة التصوف (وكان في أول الأمر خاضعا للزهد فحسب) قد نبتت، وترعرعت في أرض العراق، وفي البصرة بالذات.
وقد يكون من الأسباب أيضا اتباع أئمة المدارس لشيوخهم. فالمدرسة العراقية كثر في كلامها الزهد أكثر من المدرسة المكية بكثير، وقد يكون ذلك تبعا لاختلاف المروي عن شيوخ المدارس، فابن مسعود أكثر من ذلك، فكان المروي عنه في كتب الزهد يزيد على ثلاثة أضعاف ما روي عن ابن عباس رضي الله عن الجميع (¬1).
ومن الأسباب كذلك أن أئمة هذه المدرسة كانت لهم أسباب خاصة أدت بهم إلى هذا الاتجاه، فالحسن رحمه الله كما مرّ معنا في ترجمته نشأ في بيت النبوة، ورضع من أم سلمة، وكان أبواه من القصاص، كما كانت لسكناه البصرة أثرا من وجه آخر، إذ كانت البصرة متأثرة بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في حياة الزهد، كما تأثر كذلك تأثرا واضحا بعابد البصرة وزاهدها عامر بن عبد القيس (¬2). فدرجت أذنه على
¬__________
(¬1) بعد تتبع ما روي في كتب الزهد للأئمة أحمد، ووكيع وابن المبارك وهناد، وجدت المنقول فيها (367) أثرا عن ابن مسعود، في حين كان المنقول عن ابن عباس (120) أثرا، وعن أنس (120) أثرا، وعن عمر (148) أثرا، وعن علي (67) أثرا، وعن أبي الدرداء (136).
(¬2) كتاب الحسن البصري مفسرا (14).

الصفحة 567