كتاب طبقات النحويين واللغويين

فإذا انتصفَ النَّهارُ رَجَع وخَلَع ثيابه، وقال: عندكم شيءٌ نأكله؟ فتُخرج الجارية مائدةً عليها أرغفة سَميذ وقطعة من جَدْي أو دجاجة وفَضْلة من جام حَلْواء، فيأكل ذلك ولا يقول: مِن أَيْن لكم هذا؟ فلا يزالُ هذا دأبه، ولا يسأل عمَّا يُقدَّم إليه، وما يُشتَرى له من الفاكهة والطيبات، فقولوا له: تلك الدنانيرُ ذهبتْ فيما كنتَ تأكلُه ولا تسألُ عنه! فانصرفت وقد أوجبتْ عليه الحجة، ولم يصلْ إلى درهمٍ واحدٍ ممَّا ذهبَ له.
وقال: سمعت أحمد بن إسحاق المعروف بابن المدوَّر يقول: كنتُ أرى أبا عبد الله بن الأعرابيِّ يشكُّ في الشيء فيقولُ: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقةً بغزارة حفظه، ولم يكن مع ذلك موصوفًا بالبلاغة، ولا رأيته إذا كتب كتابًا إلى بعض أصحاب السلطان خرج عن طبع العامَّة، فإذا أخذتَه في الشعر والغريب ومذهب الفراء والكسائي؛ رأيتَ مَن لا يفي به أحد، ولا يتهيأ له الطَّعنُ عليه.
وكان هو ومحمد بن يزيد عالِمَينِ قد خُتِم بهما تاريخُ الأدباء. قال بعض المُحدَثين:
يا طالب العلم لا تَجْهَلَنْ ... وعُذْ بالمبرِّد أو ثعلبِ
تجدْ عندَ هذينِ عِلمَ الورى ... فلا تكُ كالجملِ الأجربِ
علومُ الخلائقِ مقرونةٌ ... بهذينِ في الشرق والمغربِ
قال: وكان محمد بن يزيد يُحِبُّ أن يَجْتَمِع معه ويَستكثِر منه، فكان يمتنع من ذلك، فقلت لخَتَنِه الدِّينَوَرِي: لِمَ يفعلُ ذلك؟ فقال: أبو العباس محمد بن يزيد حَسَن العبارة، حُلو الإشارة، فصيحُ اللسان، ظاهرُ البيان، وأحمد بن يحيى مذهبُه مذهبُ المعلِّمين؛ فإذا اجتمعا في محفِل حُكِم لهذا على الظَّاهر إلى أن يعرف الباطن. وكان إذا تلاقَيَا على ظَهْر الطريق تساءلا وتوافقا، رحمهما الله.
قال أبو عمر بن سعد القُطْرَبليّ: سرت إلى أحمد بن يحيى في يوم الأربعاء

الصفحة 143