كتاب طبقات النحويين واللغويين

وكانت وفاته يوم الجمعة، ومعي مُتطبِّبٌ لنا، فلما دخلت عليه قال: أتيتَ بما في نفسي، كنتُ الساعةَ على أن أكتبَ إليك أسألك البعثةَ به إليَّ، فقد سرَّني أن وقع مجئيه بالاتفاق. فنظر إليه، وجسَّ يدَه، ثم قال له: أنت كأنك الدّرّ، أنت في كلِّ عافية، القوة تامَّة، والنبضُ طبيعيّ، والذي تشكوه من دم. فرأيته وقد اقشعرَّ وجهه وقال: بشَّرك الله بخير! وسنُّه في الوقت تسعون سنة وسبعة أشهر.
قال بعضهم: كنَّا عند أحمد بن يحيى نُعزِّيهِ بخَتَنِه أبي عليٍّ -وقد جاء نعيه من مصر يوم الأحد لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة ست وثمانين-، فقال في كلام جرى: ما كنتُ في وقت من الأوقات أشدَّ تثبُّتًا في العربية واللغة مني في هذا الوقت؛ لأنِّي كلَّما طاولتها وتبحرتها احتجتُ إلى التثبُّت فيها. ثم قال: وأرى قومًا ينظرون أيامًا يسيرة، ثم يقع لهم أنهم قد بلغوا واكتفوا.
قال: وقال أبو العباس: أحسنَ زهير في القول والمعنى ما شاء. وكان يتعصَّب له ويقدِّمه. فقال أبو عمر -وكان يقدِّم الحطيئةَ-: ما أدفع فضل الحطيئة. فقال: وأنا لا أدفع فضل زهير. قال: فمن أين مثل قول زهير:
تَهامون نجديُّون كيدًا ونُجْعةً ... لكل أناس من وقائعهم سَجْلُ
سعى بعدهمْ قومٌ لكي يدركُوهُمُ ... فلم يفعلُوا ولم يلاموا ولم يألوا
قال: فمِنْ أين مثل قول الحطيئة:
أولئك قومٌ إن بنوْا أحسنُوا البنا ... وإن عاهدُوا أوفَوْا وإن عَقَدوا شَدُّوا

الصفحة 144