كتاب نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر = الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام (اسم الجزء: 4)

في النوبة ليصده عن الدخول شفقة على آصف خان مما دعى
إليه، فأحب أن يتربص عساه ينجو وأني له وما بينه وبين الجنة إلا خطوات، ولهذا لما اعترضه
الفيل وقف وأمر بكفه ففعل وتقدم حملة المحفة به، فلما دخل المقام المحمود أخذت السيوف من جهاته
وانجدل سريعاً وتمت له السعادة بالشهادة.
وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة إحدى وستين وتسعمائة فرثاه غير واحد من العلماء بمكة،
وصنف شهاب الدين أحمد بن حجر المكي رسالة مفردة في مناقبه، قال فيها: إنه كان من أهل الدنيا
باعتبار الصورة الظاهرة، لكنه في الباطن من أكابر أهل الآخرة، لما اشتمل عليه من الاجتهاد في
العبادات مما لم يسمع مثله إلا عن بعض من مضى من العلماء العاملين والصلحاء العارفين، وإننا لم
نر أحداً قدم إلى مكة من أرباب المناصب بل ولا من العلماء وغيرهم لازم من العبادات ملازمة هذا
الخان بحيث لا يضيع له وقت نهاراً ولا ليلاً في غيرها إلا فيما يضطر إليه من العادات، فمن ذلك
أنه أقام بمكة المشرفة أكثر من عشر سنين لا نعرف أنه ترك الجماعة فيها مع الإمام بالمسجد الحرام
في فرض واحد من غير مرض، ونحوه مع انضم لذلك من قراءة القرآن ومطالعة كتب العلم من الفقه
والتفسير والحديث والعلوم الالهية واقرائها واجتماع الفقهاء والعلماء عنده لاستماع ذلك والبحث معه
فيه كان يمضي لهم عنده الأوقات الطويلة كل يوم في ذلك، وكان يقع لهم معه كثير من الأبحاث
الدقيقة والمعاني العويصة لا سيما ما يتعلق بعويصات تفسير القاضي البيضاوي وأصله الكشاف
وحواشيهما، وكذلك كتب الأصلين كالتلويح وشرح المواقف وحواشيهما، وكذا كتب الفقه كالهداية
وشروحها والكنز وشروحه والمجمع وشروحها والبخاري ومسلم وبقية الكتب الستة وشروحها
وحواشيها، حتى نفق العلم في زمنه بمكة نفاقاً عظيماً، واجتهد أهله فيه اجتهاداً بالغاً، وثاب الطلبة
وعكفوا عكوفاً باهراً عليه، وبحثوا عن الدقائق لينفقوها في حضرته، وتحفظوا الاشكالات ليتقربوا
بها إلى خواطره، كل ذلك لاسباغه على المنتسبين إلى العلم بأي وجه كانوا من ضوافي الاحسان
وواسع الامتنان ما لم يسمع بمثله عن أهل زمنه ومن قبله بمدد مديدة.
قال: وكان مع ما هو عليه من التنعم البالغ والسراري والزوجات والحشم والخدم وغير ذلك له تهجد
طويل بالليل بحيث يقرأ في تهجده في كل ليلة نحو ثلث القرآن مع الفكر والخشوع والخضوع بين
يدي الله تعالى، لا يفتر عن ذلك حضراً بل ولا سفراً كما أخبر عنه الثقات الذين صحبوه في السفر
من مكة إلى الروم ثم منه إلى مكة، قال: وكان يعتكف في رمضان كل سنة مدة إقامته بمكة في
المسجد الحرام بما ينبغي للمعتكف الاشتغال به من التفرد والتجرد والطاعة بظاهره دون قلبه، فيقرأ
ويسمع عدة ختمات، ولهذا استمر على طريقته بعد عوده من مكة إلى بلدته مع مباشرته للوزر
الأعظم حتى توفاه الله إلى جنته إلى دار كرامته، لأن أعماله لم تكن مدخولة وإلا لانقطعت وبطلت،
فإذا داوم عليها مع المزيد منها دل ذلك على خلوص نيته وطهارة سريرته.
قال: وكان له شدة إنكار على من يكثر في كلامه لغو اليمين كلا والله، وبلى والله، في كل حقير
وجليل، كما هو دأب أكثر الناس، ونحن لم نعرف منذ اجتماعنا به أنه جرى على لسانه لغو يمين ولا
حلف بالله، ومما يدل على تمسكه بأعلى أحوال الصوفية من مجاهدة النفس وقمعها عن كل مألوف بها
من راحة ولهو ولعب وبطنة وغفلة وكذب ما أخبر به عنه الثقة، قال: صحبته في سفره إلى
القسطنطينية من مكة ذاهباً وراجعاً فلم أره مسح على الخفين قائلاً: هو رخصة والأخذ بالعزيمة أولى
وأفضل، ومن ذلك أنه كان له بيت معد لاختلائه فيه أربعين يوماً على باب المسجد، وكان الباب
مفتوحاً يرى الحجر وارتفاعاً قليلاً من البيت الشريف فتصح المراقبة، وله رتبة الشهود لا يخرج
منها إلا لصلاة الجماعة عند الباب ثم يعود إليها سريعاً من غير أن يكلم أحداً، وكان ذلك مع مراعاة
الشروط من الصوم ودوام الجوع ودوام السهر والذكر والفكر والانقطاع إلى الله سبحانه.
قال ابن حجر: إنه كان مع ما هو عليه من الفخامة الدنيوية شديد التواضع للفقراء والعلماء كثير
الاحسان والتردد إليهم، حتى إنه لكثرة ذلك منه جلب الناس كلهم إلى منزله والجلوس في مجلسه
بحيث لم يبق

الصفحة 368