كتاب نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر = الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام (اسم الجزء: 4)

يلتمس
الدعاء منه له وكان يواصله مدة حياته، ثم دخل الشيخ الهند ثانياً واجتمع بمحمود شاه، وبعد أيام قال
الشيخ له: هل تعلم ما جئت له؟ فقال: وما يدريني! فقال: سنح لي أن أزن أحكامك بميزان الشريعة
فلا يكون إلا ما يوافقها، فشكر السلطان سعيه وأجابه بالقبول وأمر الوزراء بمراجعته في سائر
الأمور، ونظر الشيخ في الأعمال والسوانح أياماً واجتهد في الأحكام، فأمضى ما طابقت شرعاً ووقف
فيما لم يطابق، فاختل كثير من الأعمال القانونية وتعطلت بالسياسة وانقطعت الرسوم واحتاج
الوزراء إلى ما في الخزانة للمصرف، والشيخ قد التزم سيرة الشيخين رضي الله عنهما في وقت
ليس كوقتهما ورعية ليست كرعيتهما، ولم يمض القليل حتى خرج عن وصية الشيخ مريده الذي
استخلفه عن نفسه في تحقيق الأمور العارضة، وكان يراه أزهد منه في الدنيا وأعف نفساً وأكمل
ورعاً، فنفض الشيخ يده مما التزمه وقام ولم يعد إلى مجلسه، قال الآصفي وبيانه: أنه لما تمسك
بميزان الشريعة كره أن يجالسه عمال الدنيا وتخلط نفسه بأنفاسهم في المراجعة، وكان لديه من يعتمد
عليه من تلامذته وأكبر أصحابه ويعتقد فيه ديناً وورعاً ويتوسم فيه التحفظ من الشبهات واسمه شيخ
جيله فأمر أن يجلس مع العمال ويستمع لهم ويخبره بالحال بعد تحقيقه، فكان يجلس ويسمع ويتحقق
ويخبر ويرجع إليهم بجواب الشيخ وعلى ما قاله المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فأبت نفسه إلا ما هي شيمتها فجانست من جالست، فحملت صاحبها على مضلة الطريق ولا خلاف
في أن الصحبة مؤثرة قاهرة، ودس الوزراء من يرشيه ويرضيه، وكان يكره شرب الماء من فضة
فصار يبيحه ويسرق الفضة إن نالها، وفي قضية دخلت عليه امرأة بايعاز من الوزير ومعها مصاغ
مرصع رشوة له وأسلمته زوجته بحضوره ورجعت إلى الوزير تخبره، ودخل على السلطان وقال
له: تعطلت المعاملات القانونية والرسمية ولم تبرأ الشريعة من تدليس الرشوة والشيخ من رجال
البركة لا من عمال المملكة، وهنا امرأة بذلت لوكيله رشوة كذا وكذا، وكان السلطان متكئاً على
وسادة، فلما سمع الخبر استوى جالساً وقال: أين هي؟ فأحضرها فسألها، فأخبرت بما أرشت،
فاستدعاه السلطان وسأله عنه فأنكر، ثم جمع بينه وبينها فقالت: أنا آتيك به وفعلت، فتأثر السلطان
ورد الحكم إلى الوزير على ما كان عليه في سالف الأيام، وبلغ الشيخ ذلك، فنوى السفر إلى مكة
وتوجه إلى سركهيج، وعلم به السلطان فأرسل غير مرة يسأل رجوعه فلم يجب، ثم حضر الأمراء
الكبار لتسليته من جانب السلطان، فشرع لهم الشيخ يبين لهم ما قيل في الدنيا، ومن ذلك ما روى عن
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم
من أخذ هذه وهذه، ظاهر الحديث فيه رخصة إلا أن من الأدب أن يقتصر على ما يكفي ولله سبحانه
أن يبارك له فيه، ومنه ما روى أنه ذم الدنيا رجل عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال:
الدنيا دار صدق لمن صدقها، دار نجاة لمن فهم عنها، دار غنى لمن تزود منها، مهبط وحي الله
ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا الذي
يذمها! وقد آذنت بينها ونادت بفراقها، ونعت نفسها، وشبهت بسرورها السرور وببلائها البلاء ترغيباً
وترهيباً، فيا أيها الذام لها المعلل نفسه! متى خدعتك الدنيا ومتى استدمت، أبمصارع آبائك في البلى
أم بمضاجع أمهاتك في الثرى:
إذا نلت يوماً صالحاً فانتفع به فأنت ليوم السوء ما عشت واحد
سياق الأثر فيه منع الذم وإيثار بالزاد وحث على الأهبة وعظة بالعبرة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا
ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وبينما الأمراء لديه جاء السلطان إليه وسأله البركة بإقامته في الملك وليعمل في دنياه لآخرته بيمن
صحبته، فأجاب بأن مكة شرفها الله تعالى تشتمل على مواطن الإجابة، والدعاء لكم بها أوفق للحال
وأصلح للمآل، وقدماً قيل: إن الدين والدنيا ضرتان لا تجتمعان، فكان يختلج في صدري إمكانه،
فأحببت بأن أكون على بينة منه بالتجربة، فأعملت الفكر فيه فحملني على السفر من مكة إليكم لتوفيق
كنت رأيته منكم،

الصفحة 386