كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

ديارٌ لَها بالرَّقمتين كأنها ... مراجعُ وَشْمٍ في نَواشر مِعْصَمِ1
بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفَةً ... وأَطلاؤُها ينهضنَ من كل مَجْثمِ2
وقفتُ بها من بعد عشرين حجَّةً ... فَلأْيًا عرفت الدار بعد توهم3
أثافِيَّ سُفْعًا فِي معرَّس مِرْجَل ... ونُؤيًا كجذم الحوض لم يتثلَّم4
فلما عرفت الدار قلت لِرَبْعِها ... ألا انعم صباحًا أيها الرَّبع واسْلم
وواضح في هذا المطلع الذي يصف فيه زهير الطلل أنه يعتمد في تصويره على التفاصيل وأن يعطي كل جزء حقه؛ فهو باحث محقق، وهو يطلب في شعره أن يكون أكثر بيانًا ودقة وتفصيلًا لما يتحدث عنه، ويحاول أن يصوره. فهو من الشعراء المصورين الذين يحاولون عرض المناظر أمامنا بكل أجزائها وتفاصيلها؛ ولذلك نراه يذكر في نموذجه حين يتحدث عن الأطلال الأثافِيّ والنؤى حتى تتم الصورة بجميع دقائقها. على أن مقدرته في "التصوير" تظهر في جانب آخر هو استخدام الألفاظ والعبارات التي تجعل المنظر بارزًا ناطقًا. وانظر في البيت الثالث إلى هذه الوحش التي اتخذت دارًا صاحبته مقامًا؛ فإنك تراها تمشي أمامك خلفه، أي في وجهات متضاده، وقد نهضت أطلاؤها الصغار وانتثرت هنا وهناك؛ فانظر كيف استعان على بث الحركة في المنظر باستخدامه لكلمة "خلفه" ثم انظر إلى تلك الأفعال المضارعة التي وضعتها اللغة للدلالة على الأحوال المنظورة؛ فإنه يأتي بها ليجعلنا نبصر حوادثه الماضية، وكأنها تجري تحت أعيننا. وانظر إلى البيت الرابع وما وضع فيه من تحديد "الزمان" حتى يؤثر في أنفسنا، ثم انظر إلى تلك التحية الهادئة في البيت الأخير، فإنك لا تشك في
__________
1 الرقمتان: موضعان متباعدان، يقول إنها تحل بهذين الموضعين، مراجع وشم: خطوط وشم، والنواشر: عصب الذراع وعروقه الباطنة، المعصم: موضع السوار.
2 العين: البقر، والآرام: الظباء البيض، خلفة: يخلف بعضها بعضًا، الأطلاء: جمع طلا وهو ولد الظبية والبقرة، المجثم: المريض.
3 الحجة: السنة. لأيًا: بعد جهد.
4 الأثافي: ثلاثة حجارة يوضع عليها القدر، سفعًا: سواد. المعرّس هنا: موضع المرجل، وأصل التعريس النزول في وقت السحر، والمرجل: القدر. والنؤى: حاجز في شكل الهلال من تراب يرفع حول البيت لئلا يدخله الماء. جذم الحوض: حرفة وأصله، لم يتثلم: لم يتهدم.

الصفحة 28