كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

ومن السوبان إلى وادي الرس والقنان. وهو لا ينسى في أثناء ذلك أن يعطي كل مكان صورته بالتفصيل؛ فكم بالقنان ومن محل ومحرم، وها هو ذا الركب يسير عن يمينه، وانظر إليهن فعليهن السدول والأنماط الحمراء حمرة تشبه الدم، ومن ينسى هذه الصورة؟ لقد أعطاها زهير لون الدم وحرارته. وانظر إليهن في السوبان، وقد ظهرن وعليهن دلال الناعم المتنعم، بل انظر إليهن في وادي الرسِّ، وقد وصلن إليه وصول اليد للفم؛ فإنك ترى منظرًا عجبًا؛ إذ يجعلك تتخيل هذه القافلة وهي تسير في الصحراء سيرًا طبيعيًّا فيه أناة وفيه حركة وانتقال من مكان إلى آخر انتقالًا طبيعيًّا أشبه ما يكون بحركة اليد وهي تريد الوصول إلى الفم.
وإذا أنعمت النظر في تلك الأبيات السابقة من المطولة وجدت زهيرًا قد استطاع أن يعطينا "أمكنة الصورة"، كما استطاع أن يعطينا "زمانها": "بعد عشرين حجة، بكرن بكورًا، واستحرن بسحرة"، وماذا ينقص الصورة بعد ذلك؟ لقد وعت "اللون" و"الزمان" و"المكان"؛ غير أن ذلك لا يحقق لزهير كلما يريده؛ فما تزال دقة التصوير تلزمه العناية بمواد أخرى؛ فنراه يلجأ للتفاصيل وذكر الجزئيات، فيقف عند فتات العهن المنثور من الهوادج، ويصوره كحبِّ الفنا أو عنب الثعلب؛ حتي يعطي للصورة "اللون" مرة أخرى، فاللون الأحمر لا يكفي، بلا لا بد من ألوان أخرى، ولا بد أن يتخلل ذلك ذكر التفاصيل التي يحسن أن تشتمل عليها الصور، وما أجمل البيت الأخير، وقد صور صواحبه ينتهين إلى المياه الزرقاء؛ وبذلك يضيف لونًا آخر إلى الصورة حتى تأخذ الشكل، وأخيرًا يذكر أنهن ألقين عصا الترحال في هذا المكان، وهنا نراه يذكر الخيام وأنها نُصبت حتى يعطي المنظر الشكل الأخير.
وعلى هذا النمط ما يزال زهير يعنى بنماذجه عناية شديدة، وهو يوزع هذه العناية على كل جانب فيها، وحقًّا ما لاحظه السابقون من أنه كان يجهد نفسه في عمله حتى ليمكث في عمل القصيدة حولًا كاملًا، وما الحول إزاء العمل الفني الجيد؟ إن زهيرًا لم يكن يطلب أفقًا وسطًا؛ بل كان يريد أن يحلق في الأفق الأعلى؛ ولذلك كان يحقق لنماذجه وصوره كل ما يمكن من مهارة، وهي لا تقف

الصفحة 30