كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

لسبب طبيعي وهو أن كل عربي ينطوي عليها، ينطوي على الثقة بالنفس التي لا حد لها وما يتصل بها من الأنفة والإباء والشعور بالكرامة ومن أجلها كان شعر المتنبي يلتصق بنفوس العرب على مدار الزمن ويشغفون به شغفًا شديدًا؛ ولكن هذا كله ينبغي أن لا ينسينا ما قلناه، فقد كان المتنبي شاعرًا ماهرًا، واستطاع بمهارته أن يخفي حقيقة فنه وصناعته عن كثير من المستمعين والنظارة، وأعانه في ذلك أنه كان صاحب صوت ضخم لا يرتفع به حتى يحدث جلبة شديدة. وهذا نفسه ما ضلل النقاد قديْمًا وحديثًا في فهمه؛ فقد تابعوه في وصفه للأعرابيات وتشاؤمه وحكمه وتمجيده للبطولة العربية وفخره وطموحه إلى المعالي وترفعه عن الدنايا ونسوا نسيانًا تامًّا أنه شاعر متصنع يحترف التصنع في شعره للثقافات المختلفة؛ إذ يحاول أن ينقل إيماءة شيعية أو صوفية، وشارة فلسفية أو منطقية، وشاذة لغوية أو نحوية. وشاردة تركيبية أو موسيقية، وبذلك كان قطبًا كبيرًا في مذهب التصنع، بل لقد كان المفتاح الذي أخذت تتساقط منه نغمات هذا المذهب في قصائد الشعراء ونماذجهم.
10- شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:
وإذا تركنا المتنبي إلى غيره من شعراء اليتيمة الذين عاصروه أو جاءوا من بعده وجدناهم يذهبون مذهبه في هذا التصنع الثقافي، وهو تصنع لا يضيف طرافة فنية إلا هذا النسق من حشد الأسماء والمصطلحات في عبارات الشعر وأساليبه، وكأنما عجز الشعراء في هذه العصور عن التجديد المستقيم فلجئوا إلى هذه الطرق الملتوية كما نجد عند القاضي التنوخي1 والبُستي2 والصاحب بن عباد3 وأضرابهم، وإن الإنسان ليشفق على هؤلاء الشعراء الذين يطمحون إلى التجديد فيضلون السبيل، بل هي الحضارة العربية التي ضلت سبيلها، فلم تعد تستطيع التعبير عن الوجدان، إلا هذا التعبير المعقد الذي تثقله مصطلحات
__________
1 اليتيمة: للثعالبي 2/ 310.
2 يتيمة 4/ 294.
3 يتيمة 3/ 231.

الصفحة 349