كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

الثقافي استغلالًا قيمًا إلا ما نراه عندهم من نقل المصطلحات، وكذلك كان من شأنهم في استغلال ألوان التصنيع الحسية؛ فقد استحالت عندهم إلى ألوان باهتة، ليس لها الجمال والتعبير الزخرفي الذي رأيناه في القرن الثالث. لم تعد ألوانًا زاهية؛ إنما أصبحت ألوانًا من طراز آخر، لم تعد وشيًا وتصنيعًا؛ بل أصبحت تكلفًا وتصنعًا، كما رأينا في الفصل السابق عند المتنبي والوأواء الدمشقي وغيرهما حين كانوا يستخدمون الطباق والجناس والتصوير، وكأنما أصبحت هذه الأشياء جامدة متحجرة في تاريخ اللغة والفن، فشاعر من الشعراء لا يستطيع أن ينوع في أصباغها بهذه الصورة من الثروة الزخرفية التي تركها ابن المعتز وأبو تمام.
وحقًّا أن الشعراء أكثروا من استخدام ألوان التصنيع، حتى ليوشك بعضهم أن يتخصص بلون من ألوانها، كما نجد عند البُستي الذي يقول فيه الثعالبي: "إنه صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأسيس، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريفة لطيفة"1 ومن الحق أن البستي عجز عن استخدام هذا اللون استخدامًا فنيًّا على نحو ما رأينا عند أبي تمام إذ كان يمزجه بالتصوير، بل كان يمزجه بالعقل والفكر الدقيق. واقرأ للبستي هذا الجناس2:
لم ترَ عيني مثله كاتبًا ... لكلِّ شيءٍ شاءَ وشَّاء
يبدِعُ في الكُتْب وفي غيرها ... بدائعًا إن شاء إنشاءَ
فإنك تراه يجانس بين الكلمات جناسًا شكليًّا لا عقل فيه ولا فكر ولا خيال ولا تصوير. وقد استخدم الشعراء كثيرًا من ألوان التصنيع، ولكن على هذه الطريقة التي نراها عند البستي حيث لا يشفع اللون بفكر يغيِّر في شِياته، بل هو لا يشفع بالألوان الأخرى من التصنيع الحسي كما رأينا عند أبي تمام، حين كان يمزج بين الألوان الحسية مزجًا دقيقًا، ومع ذلك فقد وضع الشعراء همهم في التعبير بهذه الألوان واستمرَّ ذلك أغلب ما يوفر له الشعراء من جهدهم في العصور الوسطى، لا عند شعراء اليتيمة فقط، بل أيضًا عند من جاءوا بعدهم في مصر والأندلس.
__________
1 يتيمة 4/ 284.
2 يتيمة 4/ 291

الصفحة 351