كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

نشدتُكِ يا بانةَ الأَجْرعِ ... متى رفعَ الحيُّ من لَعْلَعِ1
وهل مرَّ قلبيَ في التابعيـ ... ن أم خارَ ضعفًا فلم يَتْبَعِ
لقد كان يُطمُعني في المُقام ... ونيّتُهُ نيَّةُ الْمُزْمعِ
وسِرْنا جميعًا وراء الْحُمُول ... ولكن رجعتُ ولم يرجِعِ
فأنّتُهُ لكِ بين القلوبِ ... إذا اشتبهت أنَّةُ الموجَعِ
وشكوى تدلُّ على سُقْمِهِ ... فإن أنتِ لم تُبصري فاسمعي
فقد أطال مهيار الفكرة ودار حولها هذا الدوران الذي يبعدها عن طبيعة الأفكار الغنائية؛ ولكن ما للأفكار الغنائية ومهيار؟ إنه يريد أن يجدد فلا يجد عنده ثروة فكرية يستعين بها على ما يريد، وإذن يعمد إلى تطويل الأفكار القديمة وبسطها كل البسط؛ غير أنه حين صنع ذلك ضل منه أسلوب الشعر الغنائي في الطريق، فقد طالت الأفكار، ولم يعد لها شيء من اللذع والحدة. وما أشبه أسلوب مهيار بالسهل المنبسط الذي لا تجد فيه سوى نبات واحد فإذا بك تملُّه وتسأمه لما فيه من تكْرار وعدم تنوع. وحقًّا أن أسلوب مهيار أسلوب منبسط فلا نتوء فيه لفكرة أو صورة غير هذا التفصيل الممل الذي ينفِّر الإنسان من متابعته والنظر طويلًا في ديوانه؛ إلا أن يكون باحثًا يحترف البحث؛ فلا يهمه أن يقرأ شعرًا تتقد فيه العاطفة، ويلذع فيه الأسلوب، وهل يجد الإنسان شيئًا من اللذع أو الحدة أو الطرافة في تلك الأبيات وخاصة البيتين الأخيرين؟ وهل كلمة "إذا اشتبهت" كلمة شعرية؟ وهل نستريح إلى التعبير عن الارتحال بالارتفاع كما يقول في البيت الأول؟ وهل نستريح لكلمة النية؟ ألا نحس في ذلك كله بضروب من خبو العاطفة وضعف الأسلوب.
والحق أن مهيار لم يكن يعرف العبارة الحادة في الشعر العربي معرفة دقيقة؛ لأنه أجنبي دخيل على اللغة، وهو لم ينزح إلى البادية كما نزح إليها أبو نواس، ولا تعلَّم الفصاحة من شيوخ بني عقيل كما تعلمها بشار؛ فلم تتعمق فيه السليقة
__________
1 الأجرع: رملة طيبة المنبت. لعلع: جبل.

الصفحة 359