كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

الذي أشرنا إليه، واقرأ هذه الأبيات:
وبجَرْعاء الحمى قلبي فَعُجْ ... بالحمى فاقرأْ على قلبي السَّلاما1
وترجَّل فتحدَّث عجبًا ... أن قلبًا سار عن جسمٍ أقاما
قُلْ لجيران الغَضَا آه على ... طيب عيشٍ بالغضا لو كان داما2
نصلُ العامَ وما ننساكُمُ ... وقُصَارى الوجد أن نَسْلُخَ عاما
حمِّلوا ريح الصَّبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحًا وثُماما3
وابعثوا أشباحَكُم لي في الكَرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما
فإنك ترى الليونة والميوعة التي يصاب بها الشعراء الوجدانيون حين يصبح الشعر تلفيقًا فتراهم يتهالكون ولا يكادون يتماسكون، وقد كرر الحمى وكرر القلب تكرارًا لا نحس فيه جمالًا؛ وانظر إلى البيت الثاني، ألا تحس بشيء من التكلف في هذا الترجل؛ لكأنه جاء بهذا البيت ليعبر عن الطباق بين سار وأقام؛ ولكنه طباق باهت. وهكذا مهيار دائمًا في استخدام ألوان التصنيع؛ إذ نحس كأنها فقدت عنده أصباغها أو فقدت ألوانها، إن كان من الممكن أن يفقد لون لونه. ويستمر فيعبر عن دماثته وليونته بأنه لا ينسى محبيه، مهما طال به العهد؛ وقصارى الوجد عنده أن يسلخ عامًا؛ وها هو ذا أخيرًا لا ينام، إلا إذ أذن له هؤلاء المحبون، وهو إن نام يطلب أشباحهم في الكرى، ألا تحس في ذلك كله ما نشير إليه من ليونة الغزل عند مهيار، وما هذا الإذن الذي يصطنعه ليدل على منتهى ما يمكن من حساسية في الشعور ورقة في العواطف؟ وانظر إلى هذه الأبيات:
لم تزل تخدع العيونَ إلى أن ... علَّقت دمعةً على كلِّ ماقِ
ما أعفَّ النفوسَ يا صاحبي شكـ ... واي لولا غرامةُ الأحداقِ
وبنفسي المحلُّ ليس رفيقًا ... للسَّوافي ولا لتيه الرِّفاق4
__________
1 الجرعاء: رملة منبتة ولا وعوثة فيها.
عج: اعطف وقف.
2 الغضا: من أشجار البادية.
3 الشيح والثمام: من نباتات الصحراء.
4 السوافي: الريح تسفي التراب.

الصفحة 366