كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

هذا المذهب من استخدام العناصر البدوية القديمة في الشعر، كأنما التعبير عن العاطفة تعبير يقيده الحاضر، وما الحاضر؟ إن العاطفة أوسع من أن تقيد بمكان خاص أو زمان خاص، وربما كان التعبير بالعناصر الماضية يعطيها من الاتساع في التعبير ما لا يعطيها التعبير بالعناصر الحاضرة، وما لنا نذهب بعيدًا؟! إن التعبير العاطفي إنما هو ضرب من الرمز عما في نفوسنا، ومن حق الشعراء أن يرمزوا إليه بالعناصر الماضية أو العناصر الحاضرة، وربما وجدوا في العناصر الماضية ما يسعفهم بالتعبير عما في نفوسهم تعبيرًا أدق وأعمق عمق هذه العناصر في الماضي والقديم. وأكبر الظن أن ذلك ما دعا أصحاب التصوف والتشيع إلى أن يرتبطوا في شعرهم بتلك العناصر؛ فقد اتخذوها للتعبير عن عواطفهم العميقة، واستطاعوا أن يحدثوا بها ضربًا من الشعر الرمزي في اللغة العربية.
على كل حال كان مهيار يكثر من العناصر البدوية في شعره، سواء منها ما يتصل بأسماء صواحبه أو أماكنهن أو ما في هذه الأماكن من النباتات والأشجار والأودية والرياح، كأن يقول في مطلع إحدى قصائده:
بَكَرَ العارِضُ تحدُوه النُّعامَى ... فسقاكِ الرَّيَّ يا دارَ أُماما1
وتمشَّتْ فيك أرواحُ الصَّبا ... يتأرَّجنَ بأنفاسِ الخُزامَى2
فإنك تراه يتشبث منذ المطلع بهذه العناصر القديمة، وهي لا شك تعطي غزله ضربًا من الاتساع في التعبير، وانظر إليه يقول في قصيدة أخرى تلك القطعة الجيدة المعروفة:
سَل طريقَ العيسِ من وادي الغضا ... كيف أغسقتَ لنا رَأْدَ الضُّحى3
ألشيءٍ غير ما جيراننا ... نفضوا نجدًا وحَلّوا الأَبطحا
يا نسيمَ الصُّبحِ من كاظمةٍ ... شدَّ ما هِجتَ الجوَى والبُرَحا
الصَّبا إن كان لا بدَّ الصَّبا ... إنها كانتْ لِقَلْبي أرْوَحا
__________
1 العارض: السحاب.
النعامى: ريح الجنوب.
2 الخزامى: نبات طيب الرائحة.
3 العيس: الإبل. رأد: ارتفاع.

الصفحة 370