كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

الشديد، وهو طول ما يزال به حتى يحدث السأم والملل؛ إذ لم يكن يستعين عليه بثروة عقلية، إنما كان يستعين عليه ببسط الأسلوب ونشره، وارجع إلى الموضوع العام الذي يشغله في ديوانه، ونقصد شعر المديح فإنك تراه يفقد أصباغه العقلية القديمة التي رأيناها عند أبي تمام، بل هو يفقد أصباغه الحسية، وكأني به يتحول كما تحول الغزل إلى ضرب من المديح الباهت؛ بل إن الغزل لم يسقط عند مهيار كما سقط المديح؛ لأنه عرف كيف يستعين عليه بالعناصر البدوية القديمة، وما يمكن أن تعطيه من اتساع في التعبير، أما المديح فلم يستطع أن يحول بينه وبين هذا السقوط. وهذا هو ما يجعلنا نذهب إلى أن الشعر العربي أخذ يركد منذ القرن الرابع، فلم يعد فيه من جديد رائع سوى أن تتجمع مواده القديمة، وهي مواد أثرية إن لم تعن بها الأيدي الحديثة فقدت كل ما لها من روعة فنية.
والحق أن مهيار لم يستطع أن ينوع في معاني المديح؛ إذ كانت تنقصه الثقافة، وكان ينقصه العمق، وهو كذلك لم يستطع أن يحتفظ للعبارة بمنطق العرب الأصيل، كما احتفظ لها الشريف الرضي والمتنبي وأمثالهما، بل لقد ذهب يطيل فيها ويسرف في هذا الطول، بما كان يبسط من الأفكار والصور القديمة، وأضرَّ هذا الصنيع بقصائده لأن الشعر الغنائي حين يبسط كل البسط تصبح خطوطه مهوشة وألوانه مضطربة.
لم يكن مهيار يحكم التعبير في قصيدة المديح؛ إذ كان لا يزال يطيل فيها هذا الطول الممل الذي ينتهي بها إلى ما يشبه الرسالة من الرسائل؛ فهي تبدأ ببراعة الاستهلال، وتنتهي بالدعاء، وتمتلئ بينهما بالحشو وما يطوى من تفكك وتلفيق، وكأنما أجدبت الحضارة العربية أو أجدب التفكير الفني؛ فليس هناك من جديد سوى هذا الأسلوب المنبسط الذي ينشر الفكرة المطوية في أبيات كثيرة. ولعل من الطريف أن نذكر هنا ما رواه صاحب الأغاني عن عبد الملك بن مروان من أنه كان يقول للشعراء: "تشبهونني مرة بالأسد ومرة بالبازي ومرة بالصقر، ألا قلتم كما قال كعب الأشقري:

الصفحة 373