كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

القديمة وحشدها في أشعاره وكتاباته على نحو ما نرى في الفصول والغايات واللزوميات، وكأنه كان يؤلف شعره للمثقفين خاصة فهو يجمع لهم فيه كل ما يعرفونه من ضروب الثقافات وألوان المعرفة، وخاصة المعرفة الفنية وما يطوى فيها من صور غريبة ولفظ غير مألوف حتى يستولي على أفئدتهم بهذه الطرائف النادرة التي كانت تعد بدعًا جديدًا في هذه العصور، والتي كان الناس والنقاد يقيسون بها مهارة الشاعر وإبداعه.
2- ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:
كان أبو العلاء ذكيًّا ذكاء شديدًا سريع الخاطر دقيق الحس حتى ليروي المصيصي الشاعر أنه كان يلعب بالشطرنج والنرد1!! وروى الرواة أن أبا محمد الخافجي الحلبي دخل عليه وسلَّم ولم يكن يعرفه؛ فرد عليه السلام وقال: هذا رجل طوال، ثم سأله عن صناعته فقال: اقرأ القرآن؛ فقال: اقرأ علي شيئًا منه فقرأ عليه عشرًا، فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبي؟ فقال نعم، فسئل عن ذلك فقال: أما طوله فعرفته بالسلام، وأما كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب؛ فإنني سمعت بحديثه2. وذكر القِفْطي أنه كان له سرداب إذا أراد الأكل نزل إليه وأكل مستترًا، ثم يقول: إنه نزل إليه يومًا وأكل شيء من رُبٍّ أو دِبْس3 ونقط على صدره منه يسير وهو لا يشعر به؛ فلما جلس للإقراء لمحه بعض الطلبة فقال: يا سيدي أكلت دبسًا فأسرع بيده إلى صدره ومسحه وقال نعم، لعن الله النهم، فاستحسن منه سرعة فهمه بما على صدره، وأنه الذي أشعر به4. وليس من شك في أن هذا كله يدل على أن أبا العلاء كان مرهف الحس إرهافًا شديدًا، وهو إلى
__________
1 يتيمة اليتيمة: للثعالبي ص4.
2 تعريف القدماء بأبي العلاء ص251.
3 الرب: عصارة بعض الثمار. والدبس: عسل التمر أو عسل النحل.
4 المصدر نفسه ص37.

الصفحة 379